الكتابة في مكتب الحاكم العسكري

05 سبتمبر 2022
إسماعيل شموط/ فلسطين
+ الخط -

في الإيطالية، لغتي الأجنبية الحميمة، تعلّمني كلمات كثيرة، منها ما يُخلخِل الكلامَ ويثور على معانيه ومتكلّميه: In parole povere.

ترجمة حرفيّة: بكلمات فقيرة. ترجمة مجازية: بكلماتٍ بسيطة، واضحة، متواضِعة، غير متأنّقة، غير مبتذلة، غير مُتخمة. كلمات متقشّفة، منتبهة لقوّتها الدلاليّة ولحدودها في آن. كلمات متصالِحة مع ما تجسّده وتنتجُه من نقصان وخِذلان. ولكنّها، في الوقت نفسِهِ، تتدفّق تلذّذاً رمزيّاً لا ينضب، وتقطر رغبة عارمة.

انبنتْ علاقتي باللّغة في مكان تاريخي تتنازعه كلمات ورغبات متصادمة: مدرسة، ومؤسّسة عسكريّة، مِحبَرة وممحاة، أرشيف للذاكرة وللنسيان.

شيّدَهُ الأتراك قبل الحرب العالميّة الأولى وصَمَد حربيْن عالميّتين وانتداباً بريطانيّاً في فلسطين، قبل أن يُخطَفَ عام 1948 "مكتباً" للحاكم العسكري الإسرائيلي يدير منه شؤون التهجير والتجهيل والمحو والتلصّص. انتهى الحكم العسكري المُعلن وانسحب الضبّاط إلى مواقعهم الاستعماريّة العميقة، في حين لم يفارق المكان مفارقته الساخرة: مدرسة "المكتب".

مكان تعاني فيه الكلمة الأصلانية من نقصِ حادّ في مقوّمات العيش الذاتي الكريم والحرّ، لكنّها، خلف سياجه، كمتراس أخير، تقاومُ بشهوة الكلام شهوة الإخراس التي طالما أعمت مستعمِراً لا يقرأ، ولا يهدأ.

تشكلّت ذاتي القارئة والكاتبة في اشتباكٍ أوّلي ومستديم مع المعاني الاستعماريّة المهيمِنة: القمع، الإسكات، التزييف والوسواس الاستعماري القهري بإحكام القبضة على وعي الضحيّة وروايتها.

في هذا الفضاء المدجّج بالعسس والحرّاس الحقيقييّن والرمزيّين، في مكان تحاصرُهُ كلمات مُترَفة ومقفَلة وجائرة ومريضة الخيال، تعلّمتُ المفردات الأولى في معجم الذات وأشواقها: حرّية، معرفة، وطن، جسد، شعر. 

كلمات فقيرة، لا حدّ لثَرائِها، ولثَوَرانها.


* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون