تعكس العمارة العثمانية بدقّة بالغة مختلف التطورات والتقلبات التي عاشتها هذه الإمبراطورية، منذ تأسيسها في شمال غربي الأناضول خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وانتهاءً بهزيمتها في الحرب العالمية الأُولى وحلّها من طرف مصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938) وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها عام 1923.
فقد تطورت في مرحلتها المبكرة عن العمارة العباسية - السلجوقية، بعد أن دخلت عليها مؤثرات بيزنطية متأخرة، ووصلت في عهد سليمان القانوني (1494 - 1566م) إلى مرحلتها الكلاسيكية على يد المعماري العبقري سنان (1489 - 1588م)، ثم أخذت منحى مختلفاً اعتباراً من القرن الثامن عشر منقادة إلى أسلوب الباروك الأوروبي، وصولاً إلى الأسلوب الإمبراطوري المقتبس عن الكلاسيكية الأوروبية الجديدة، والذي انتشر في الحقبة الأخيرة من عمر هذه السلطنة.
الأدلّة المبكرة
نشأت السلطنة العثمانية في قلب الإمبراطورية البيزنطية، وتوسعت على حسابها لتحل محلها بشكل نهائي في عهد محمد الفاتح (1432 - 1481م)، ولذلك فإن تأثيراتها المعمارية على العثمانيين أكبر وأعقد بكثير من أن يحيطها تعريف أو توصيف، ويمكن القول، بشكل أو بآخر، إن العمارة العثمانية في عصرها الكلاسيكي هي شكل من أشكال تطور العمارة البيزنطية، ولكن بصيغة إسلامية.
الأدلة الأثرية من العمارة العثمانية على المرحلة المبكرة نجدها في تطوير الحلول السلجوقية لبناء المساجد في الأناضول تحديداً، وهي حلول راعت المناخ البارد الماطر لهذه المنطقة، بتركيزها على البناء المغلق، واستبعاد فكرة الصحن أو الساحة الخارجية التي تضم نافورة الميضأة. ويبدو أن الاتجاهات الخاصة بالعمارة العثمانية في هذه الفترة لم تستقر، فظهرت في مرحلة انتقال عاصمة السلطنة إلى بورصة ثلاثة أشكال من المساجد هي: مسجد القبة الواحدة، ومسجد القباب المتعدد، ومسجد الرواق الطويل المنتهي بقاعة الصلاة.
ولكن النقلة النوعية التي شكلت القنطرة التي عبرت عليها العمارة العثمانية نحو مرحلتها الكلاسيكية وبشكل مختلف تماماً عن المساجد السابقة، تمثلت في مسجد الشرفات الثلاث في العاصمة الجديدة أدرنة الواقعة في منطقة تراقيا الأوروبية، فقد بُني وفق مخطط شبه مربع، مقسوم بين صحن مستطيل وقاعة صلاة مستطيلة، ويحتوي الصحن على نافورة مركزية يحيط بها رواق من الأقواس والقباب، وبوابة مركزية مزخرفة تؤدي إلى الصحن من الخارج، وأُخرى تؤدي من الصحن إلى قاعة الصلاة.
محاولات محمد الفاتح
بعد فتح القسطنطينية عام 1453م، أدرك محمد الفاتح أهمية المدينة التي أصبحت عاصمة للسلطنة، فرعى الفنانين البيزنطيين والأوروبيين إلى جانب رعايته للفنانين الشرقيين، فبنى قبل دخوله إلى المدينة الحصن المعروف باسم "رومللي حصار" مقابل الحصن الذي بناه والد جده بايزيد الأول (1389 - 1402م) المسمى "أناضولي حصار" على الضفة الآسيوية من البوسفور.
ويُعد هذا الحصن أكثر التحصينات العثمانية إثارة للإعجاب، وقد صُمّم لقطع الإمدادات عن المدينة عبر مضيق البوسفور. وبعد دخوله المدينة واستقراره بها ونقل العاصمة إليها، بَنى القصر القديم عام 1455م، في موقع "جامعة إسطنبول" الحالية، كما بنى حصناً آخر باسم "الأبراج السبعة"، في الطرف الجنوبي من الأسوار، وكان على شكل نجمة خماسية مستوحاة من العمارة الإيطالية. وبعد فترة بنى قصره الجديد "يني كابي" والذي يعرف اليوم باسم "طوب قابي" في موقع أكروبوليس؛ المدينة البيزنطية، وهو تل يطل على مضيق البوسفور.
جرى تعديل القصر الجديد مراراً في القرون اللاحقة، حيث يُمثّل اليوم مجموعة من الأساليب غير المنتظمة والمتنافرة أحياناً. وقد ارتبط هذا التصميم العشوائي بالبيروقراطية العثمانية وهيكلياتها المتغيرة. والمبنى المتبقّي من عهد محمد الفاتح في القصر هو "كشك الفاتح" أو "جناح محمد الثاني"، الواقع على الجانب الشرقي وتطغى عليه الأسلوبية الفارسية.
يُعد مجمع مسجد الفاتح المساهمة المعمارية الكبرى في هذه المرحلة من عمر العمارة الدينية العثمانية، فقد بُني في الفترة من 1463 إلى 1470م، وكان جزءاً من تكية كُبرى تضمّنت داراً لضيافة المسافرين، وعمارة، ومستشفى، ونزلاً للتجار المتجولين، ومدرسة لتعليم القرآن والكتابة والقراءة، ومكتبة، وحمّاماً، ومتاجر، ومقبرة بها ضريح السلطان محمد الفاتح، وثماني مدارس مع ملاحقها. وللأسف الشديد لم ينج الكثير من هذه المباني، باستثناء المسجد الضخم.
كان مهندس هذا المجمع المعلّمُ سنان الكبير، وهو غير المهندس سنان الشهير في عهد سليمان القانوني، وقد بناه على تلّة إسطنبول الرابعة، والتي كانت حتى ذلك الحين مشغولة بكنيسة الرسل القدّيسين البيزنطية المهدمة، ولسوء الحظ، أتى زلزال عام 1766 على هذا البناء، الأمر الذي أدى إلى إعادة بنائه بالكامل من جانب السلطان مصطفى الثالث (1717م - 1774م) بشكل جديد، باستثناء جدران وأروقة صحن المسجد، والمدخل الرخامي لقاعة الصلاة.
الفترة الكلاسيكية
وصلت العمارة العثمانية إلى أوج تطورها في القرن الخامس عشر على يد المعمار سنان آغا القيصري (1489 - 1588)، ولذلك سُميت بالفترة الكلاسيكية، نظراً لعمق تأثيراتها، وسعة انتشارها، وتميزها بعدد من الخصائص، وتنوعها بين عمارة دينية ومدنية. وقد استمدت أفكارها بشكل كبير من النمط البيزنطي، ولا سيما كنيسة آيا صوفيا التي أثّرت عميقاً في وجدان المعمار سنان، فخلق مزيجاً توفيقياً رائعاً من هوية المدينة المعمارية العريقة والعظيمة في آن، والحاجات المستحدثة مع تحولها إلى مدينة إسلامية.
وُلد المعمار سنان في مدينة قيصرية، وتوفي في إسطنبول، وفي سجله 334 مبنى، ويُقال 500 مبنى في ثلاث قارات. ورغم أن الترجيحات تشير إلى أنه لم يكن موجوداً في بناء هذه الأبنية جميعها، إلا أن عبقريته تتمثل في وضع قواعد أسلوبية سار عليها من قاموا بتنفيذ هذه الأبنية والصروح، وهي قواعد توحيدية متوائمة مع العناصر والتأثيرات المعمارية المختلفة التي استوعبتها العمارة العثمانية سابقاً، ولكن لم يجر تأطيرها بشكل منتظم حتى ذلك الوقت.
قبل تعيينه مهندساً رئيساً للبلاط، كان سنان آغا مهندساً عسكرياً شارك في حملات عسكرية خطيرة، وكان المشروع الأول الكبير غير العسكري له هو مجمع مسجد خسرو باشا في حلب، وهو أحد أوائل المعالم العثمانية الكبرى في تلك المدينة. وكان جامع شاهزاده أول عمل مهم له في إسطنبول، وقد انتهى بناؤه عام 1548.
بعد انتقاله إلى العاصمة شكّلت آيا صوفيا المصدر الذي استلهم منه بناء المسجد العثماني الكلاسيكي، لجهة فكرة الهيكل القائم على قبة مركزية مع تغيير في النسب، وفتح الجزء الداخلي من الهيكل، وتحرر من الأعمدة والعناصر الهيكلية الأخرى التي حُطمت داخل آيا صوفيا وغيرها من الكنائس البيزنطية الأخرى، وجرى توسيع النوافذ بشكل كبير، ما أضفى المزيد من الضوء على المكان.
مجمع السليمانية
يُعد مجمع السليمانية، وهو مجمع ديني وخيري ضخم موّله السلطان سليمان القانوني، الذروة التي بلغها المعمار سنان في تصميماته وحلوله الهندسية، وقد أراد له أن يكون أعظم من مجمع محمد الفاتح. بدأ به عام 1550م، وانتهى منه عام 1557م. يتكون المجمع من أبنية متعددة، تتوزع حول المسجد الرئيسي. وقد اختار له مكاناً مناسباً على قمة إحدى تلال إسطنبول المرتفعة. وتضمنت المباني المسجد نفسه، وأربع مدارس عامة، ومدرسة متخصصة في الطب، ومدرسة متخصصة في علم الحديث، ومدرسة لتحفيظ القرآن للأطفال، وداراً للشفاء، ونزلاً، ودار ضيافة، وعمارة تضم مطبخاً عاماً، وحمّاماً، وصفوفاً من المحلات التجارية، ومقبرة فيها ضريحان. ومن أجل تكييف موقع قمة التل، كان على سنان أن يبدأ بوضع أساسات صلبة وجدران داعمة لتشكيل شرفة واسعة.
كان المخطَّط العام لمباني السليمانية أقل تناظراً من مجمع الفاتح، حيث اختار سنان دمجه بمرونة أكبر في النسيج العمراني للمدينة، وبفضل هندسته المعمارية الراقية، وحجمه الكبير، وموقعه المهيمن على أفق المدينة، ودوره كرمز لعهد سليمان القانوني القوي، يعد مجمع السليمانية حالياً أحد أهم رموز العمارة العثمانية، ويصنّفه الباحثون بوصفه أروع مساجد إسطنبول.
العمارة الكلاسيكية بعد سنان
بعد معمار سنان، جنح الأسلوب الكلاسيكي إلى التكرار، وابتعد عن الابداع، ولكن لم تخل هذه المرحلة من التميز، فقد كان داود آغا واحداً من المهندسين المعماريين القلائل الذين أظهروا إمكانات كبيرة وابتكار تصميمات تجاوزت تصاميم معمار سنان، لكنه لسوء حظه مات بسبب الطاعون قبل نهاية القرن السادس عشر.
ويُعد مسجد السلطان أحمد الأول، المعروف أيضاً باسم المسجد الأزرق، من أجمل العمائر الدينية العائدة للمرحلة الكلاسيكية، فقد بوشر ببنائه عام 1609، واكتمل عام 1617، وكان من تصميم محمد آغا؛ أحد تلاميذ معمار سنان. ويشير حجم المسجد وموقعه وزخارفه إلى أنه كان من المفترض أن يكون منافساً لآية صوفيا المجاورة؛ حيث يضم مجمعه سوقاً ومدرسة وضريح أحمد الأول، في حين أن المباني الأخرى لم تنجز بعد.
تحيط بقاعة الصلاة في مسجد السلطان أحمد قبة مركزية محاطة بأربعة أنصاف قباب مثل مسجد شاهزاد، بالإضافة إلى أنصاف قباب إضافية تنفتح من كل نصف قبة أكبر منها. وتستند القبة المركزية الضخمة على أعمدة أربعة، أضخم من تلك الموجودة في مساجد معمار سنان. أما الجدران السفلية فهي مزخرفة ببلاط يماثل في بذخه بلاط مسجد إزنيق الشهير، وتشير الوثائق العثمانية التاريخية إلى أنه جرى شراء أكثر من عشرين ألف بلاطة لهذا الغرض من الخارج. وقد اختار المعمار محمد آغا تحقيق صورة أكثر ليونة مع سلسلة من القباب وعناصر التقوس المختلفة، تختلف عن الحلول التي شوهدت في المساجد الكلاسيكية السابقة من تصميم سنان. وهو أيضاً المسجد العثماني الوحيد الذي بنيت له ست مآذن.
من التوليب إلى الباروك
اعتباراً من القرن الثامن عشر فصاعداً، دخلت التأثيرات الأوروبية في العمارة العثمانية، حيث أصبحت الإمبراطورية نفسُها أكثر انفتاحاً على التأثيرات الخارجية. وهذا العصر يطلق عليه اصطلاحاً عصر الباروك العثماني، وقد تميزبعدد من الأنماط مختلفة، حيث شهدت بداية عهد أحمد الثالث في عام 1703 عودة الديوان الملكي إلى إسطنبول بعد فترة طويلة من الإقامة في أدرنة من أواخر القرن السابع عشر. وشهدت الإنشاءات في السنوات الأولى من حكم أحمد الثالث أسلوباً أُطلق عليه اسم "عصر التوليب"، ساد ما بين عامي 1718، بعد توقيع معاهدة "بساروفتشا" مع النمسا والبندقية، و1730 حتى ثورة باترونا خليل، عندما جرت الإطاحة بأحمد الثالث. وتميزت هذه الفترة بتأثرها الكبير بأسلوب الركوكي، وهو جزء من أسلوب الباروك الأوسع، يتميز بالرشاقة والأناقة والمبالغة في الزخرفة والتنميق، شاع في فرنسا في مجالات العمارة، والديكور، والأثاث، وظهر في عهد لويس الخامس عشر (1710 - 1774). أما زخارف فترة التوليب العثمانية فتأثرت بالفن الصفوي السائد في إيران.
وخلال أربعينيات القرن الثامن عشر، ظهر أسلوب عثماني منسوخ عن عمارة عصر الباروك في أوروبا، حل سريعاً محل أسلوب فترة التوليب. وهو يمثل موت الكلاسيكية العثمانية، وبداية الاقتباس المباشر من العمارة الأوروبية، حيث كانت الاتجاهات المعمارية والزخرفية الأوروبية تنعكس على عمارة الإمبراطورية العثمانية وقت ظهورها في أوروبا.
منشآت باروكية
كانت المنشآت الأُولى التي تُمثّل الطراز الباروكي الجديد لا تتجاوز مباني مياه السبيل المزينة بالأفاريز، والتي بناها رجال النخبة في إسطنبول، كما جرى بناء حمّام جغال أوغلي ذي الطراز الباروكي، وهو حمّام تاريخي أنشئ في حي أمينونو من جانب السلطان محمود الأول عام 1741، ممّا يدل على أنه حتى السلطان روج لهذا الأسلوب. وقد خُصّصت عائدات هذا الحمام لمسجد آية صوفيا بعد أن بنى السلطان العديد من الملحقات والإضافات الجديدة، تضمّنت نافورة وضوء مقبّبة مزينة بزخارف باروكية، لكنها لا تزال تحافظ على الشكل العثماني التقليدي بشكل عام.
وأكثر دلالة على النمط الجديد هو العمارة التي أضافها محمود الأول في الزاوية الشمالية الشرقية من منطقة آية صوفيا في عام 1743. وكانت لها بوابة باروكية باهظة منحوتة بلفائف نباتية بارزة وفتحة لولبية على شكل عنق البجعة، تحيط بها أعمدة رخامية ذات تيجان تشبه التيجان الكورنثية، وتعلوها أفاريز عريضة. ويُعد مسجد نور عثمانية في إسطنبول الذي اكتمل عام 1755، أهم مشيدة تبشر بالطراز الباروكي العثماني الجديد، مما يشير إلى اندماج الثقافة الأوروبية في العمارة العثمانية، ورفض الطراز العثماني الكلاسيكي.
نمط الإمبراطورية
بدءاً من عهد محمود الثاني (1808 - 1839م)، تبنّت العمارة العثمانية نمطاً مقتبساً عن الكلاسيكية الأوروبية الجديدة التي نشأت في فرنسا تحت حكم نابليون بونابرت (1769 - 1821م)، وبذلك تخلت عن التراث المعماري العثماني برمته. وأوضح مثال على ذلك ما يُعرف حالياً بالطراز الإمبراطوري في إسطنبول مثل قبر محمود الثاني الذي صممه المعمار الأرمني بوغوظ أوهانس عام 1840، وكذلك مدرسة سيفرو كلفا الواقعة في شارع الديوان، والتي يعود تاريخها إلى عام 1819، ومجمع مقبرة ومكتبة خسرو باشا في حي أيوب، بتاريخ 1839. كما أُعيد بناء الجزء العلوي من برج الديوان في قصر طوب قابي أيضاً بشكله الحالي في عام 1820، بالاعتماد على زخارف عصر النهضة.
استمر استخدام الزخارف ذات الطراز الإمبراطوري، مثل التشبيكات والتيجان المركبة، على نطاق واسع طوال القرن التاسع عشر جنباً إلى جنب مع الأنماط الأُخرى. وبدءاً من عام 1839 مع ثورة التنظيمات في عهد عبد المجيد الأول، هيمن المهندسون المعماريون الأوروبيون والمعماريون العثمانيون من خريجي المدارس الأوروبية، فانتشرت هندسة معمارية انتقائية مختلطة أو مستعارة من أنماط متعددة؛ مثل قصر دولما بهجة للسلطان عبد المجيد الذي محل قصر طوب قابي كمقر رسمي للسلطان، وهو من تصميم المهندس الأرمني قرة بيت باليان، وقصر يلدز الذي حوله السلطان عبد الحميد إلى قصر إمبراطوري، ومكان إقامة، ومقرّاً للحكومة.
* كاتب وباحث سوري فلسطيني