العمارة العبّاسية.. صرُحٌ وقصور ضخمة ميّزت عصرها الذهبي

15 ابريل 2023
رسمٌ مُتخيّل لبغداد في أيام المنصور، لـ إدموند ساندرس، 1915 (Getty)
+ الخط -

خلافاً للعمارة الأموية التي طوّرت أسلوباً اعتمد بشكل أساس على أنماط بيزنطية وسريانية وقبطية، اعتمدت العمارة العبّاسية، بسبب موقعها وهويات رعاياها، على الكثير من تقاليد العمارة القديمة في بلاد الرافدين بشكلٍ خاص، حيث أثبتَت دراسة بقايا آثار المدن العبّاسية استمرار هذه التقاليد في المنطقة حتى بعد قرون من السيطرة الفارسية واليونانية والرومانية. 

ويتحدّث بعض الدارسين عن تأثُّرها أيضاً بـ العمارة الساسانية، ثم الصُّغدية السائدة في أواسط آسيا، هذا بالإضافة إلى الكثير من عناصر العمارة الأموية. ولكنها في نهاية المطاف اكتسبت ملامح مستقلّة، وتفرّعت منها مدارس عديدة أهمّها المدرسة المعمارية السلجوقية، وآخرها المدرسة المغولية الإسلامية في الهند. ولكنْ من سوء الحظّ أن المادّة الخام لبناء المشيّدات العبّاسية في العراق كانت من الطين واللِّبن والآجُر، وهي موادّ لا تصمد أمام الزمن كما هو الحال بالنسبة للمباني الحجرية.


البدايةُ بغداد

البداية كانت عام 762 للميلاد على يد الخليفة المنصور، والذي شرَع بتأسيس عاصمة جديدة له هي بغداد؛ اتّخذ لها شكل المدينة المُستديرة، وهو نمطٌ عمراني رافديني قديم، ورثه عنهم الساسانيون. وعلى الرغم من أنّ الآثار المتبقّية من مدينة المنصور قليلة جداً، إلّا أن شهود العيان من جغرافيّين ورحّالة كتبوا عن عظَمة هذه المدينة التي دُعيت بـ"مدينة السلام"، في عدد من المصادر العبّاسية المُبكّرة، ومنهم المؤرّخ والجغرافي أحمد بن واضح اليعقوبي (رحل عام 284هـ/ 897م).

يقدّم اليعقوبي وصفاً نادراً لبغداد في زمنه، ويتحدّث عن طريقة بناء المدينة، وكيف أنّ المساهمين فيها كانوا من مختلف بلدان الإمبراطورية العباسية، ويذكُر اسم اثنين ممّن اختاروا موقع المدينة حيث يقول إن أبا جعفر المنصور "وجّه في إحضار المُهندسين وأهل المعرفة بالبِناء، والعِلم بالذرع، والمساحة وقِسمة الأرضين، حتى اختطّ مدينتَه المعروفة بمدينة أبي جعفر، وأحضر البنّائين والفَعلة والصُّنَّاع، من النّجّارين والحدّادين والحفَّارين، فلمّا اجتمعوا وتكاملوا أجرى عليهم الأرزاق، وأقام لهم الأجرة، وكتب إلى كلّ بلد فى حمل مَن فيه ممّن يفهم شيئاً مِن البناء، فحضره مائة ألف من أصناف المِهن والصناعات، خبّر بهذا جماعةٌ من المشايخ. ثم اختطّها فى شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ومائة، وجعلها مدوّرة، ولا تُعرف فى جميع أقطار الدنيا مدينة مدوّرة غيرها، ووضع أساس المدينة في وقت اختاره نوبخت المنجّم، وما شا الله بن سارية".

قصر الأخيضر - القسم الثقافي
من أطلال قصر الأُخيضر في بادية كربلاء (ويكيبيديا)

ويتابع: "قبل‏ وضع الأساس ضرب اللّبن العِظام، وكان فى اللّبنة التامّة المربّعة ذراعٌ في ذراع، وزنها مائتا رطل، واللبنة المنصّفة طولُها ذراع وعرضها نصف ذراع ووزنها مائة رطل، وحفرت الآبار للماء، وعُملت القناة التي تأخذ من نهر كرخايا، وهو النهر الآخذ من الفرات فأُتقنت‏ِ القناة وأُجريت إلى داخل المدينة للشُّرب ولضرب اللِّبن، وبلّ الطّين، وجَعل للمدينة أربعة أبواب، باباً سمّاه باب الكوفة، وباباً سمّاه باب البصرة، وباباً سمّاه باب خراسان، وباباً سمّاه باب الشأم، وبين كلّ باب منها إلى الآخَر خمسةُ آلاف ذراع بالذراع السوداء من خارج الخندق، وعلى كلّ باب منها بابا حديدٍ عظيمان جليلان، ولا يغلق الباب الواحد منها ولا يفتحه إلّا جماعة رجال، يدخل الفارس بالعَلَم، والرَّامح بالرُّمح الطويل من غير أن يميل العلَم ولا يُثنى الرُّمح، و جعل سورها باللِّبن العِظام التي لم يُر مثلها قطُّ على ما وصفنا من مقدارها والطين، وجعل عرض أساس السُّور تسعين ذراعاً بالسوداء، ثم ينحطّ حتى يصير في أعلاه على خمس وعشرين ذراعاً، وارتفاعه ستّون ذراعاً مع الشرّافات، وحول السُّور فصيلٌ جليل عظيم بين‏ حائط السُّور وحائط الفصيل مائة ذراع بالسوداء، وللفصيل أبرجة عِظام، وعليه الشرّافات المدوّرة، وخارج الفصيل كما يدور مسنّاة بالآجرّ والصاروج، متقنة محكمة عالية، والخندق بعد المسنّاة قد أُجري فيه الماء من القناة التي تأخذ من نهر كرخايا، وخلف الخندق الشوارع العظماء، وجعل لأبواب المدينة أربعة دهاليز عِظام آزاج كلّها، طولُ كلّ دهليز ثمانون ذراعاً كلّها معقود بالآجرّ والجصّ، فإذا دخل من الدهليز الذي على الفصيل وافى رحبةً مفروشة بالصخر ثم دهليزاً على السُّور الأعظم، عليه بابا حديد جليلان عظيمان لا يغلق كلّ باب، ولا يفتحه إلّا جماعة رجال".


الرافقة ومدن أخرى

من المدن الأُخرى التي بناها الخليفة المنصور مدينتا ملطية والمصيصة في جنوبي تركيا الحالية، والمنصورة في بلاد السند. ولكن المدينة الأجمل بعد بغداد كانت مدينة الرافقة التي بُنيت على النسق الدائري، وتحوّلت إلى حيٍّ من أحياء الرقة في عهد هارون الرشيد (766 - 809م).

كان قُطر مدينة الرافقة حوالي 1500 متر، ولها سُوران، أحدهما داخليٌّ بسمَاكة ستّة أمتار، وآخر خارجي بسماكة أربعة أمتار ونصف المتر، بينهما فصيل عرضه حوالي عشرين متراً، ويستدير حول السُّور الخارجي خندق بعرض ستة عشر متراً. وبسبب توفّر المادّة الحجرية الخام؛ بُني أساس هذا السُّور من الحجر الكِلسي، بعكس أساسات مدينة بغداد التي بُنيت باللِّبن. وقد أُكمل بناؤه باللِّبن والطوب المَشوي، وكان للمدينة بابان أحدهما شرقي دُعي باسم باب بغداد، وغربي دُعي باسم باب الجنان، وشُيّد في وسط المدينة جامع على اسم الخليفة المنصور ما تزال بقاياه قائمة حتى اليوم، مع واجهة أبواب ذات عقود، ومئذنة أسطوانية مبنيّة من الآجُر. 

ومن الآثار الصامدة في المدينة أساسات الأحياء والقصور التي اتّخذها الخليفة هارون الرشيد مقرّاً له. حيث توسّعت المدينة كثيراً حتى التقت بمدينة الرقّة، وأصبح طولُ قطرها نحو عشرة كيلومترات، وبقيت مزدهرة حتى الغزو المغولي الذي أتى عليها كاملة.


سامراء المعتصم

من المدن العبّاسية الهامّة في الحقبة الذهبية مدينة سامراء، والتي بناها الخليفة المعتصم (796 - 842م) على أنقاض مدينة آشورية تُدعى "شامرا" في عام 838م، كعاصمة جديدة له على ضفّة نهر دجلة شمالي بغداد. وقد امتازت هذه المدينة التي ما تزال بقاياها موجودة حتى اليوم، بامتدادها العمراني على ضفّة النهر مسافة 33 كيلومتراً، وبقيت مقرّ سبعةٍ من الخُلفاء العباسيّين تعاقبوا على الحُكْم بين عامَي 838 و889م. وما يُميّزها أنّ مبانيها مؤرّخة بدقّة، ومن بينها جامع سامراء الكبير الذي شيّده الخليفة المتوكّل، ويُعدُّ من أجمل المشيّدات العبّاسية، على مساحة تبلغ 260 × 180 متراً. ويرتكز على دعائم مثمّنة الأضلاع، ويُحيط به من الخارج سور مدعّم بأبراج مدوّرة، وتقع مئذنته الملويّة خارج السور، وقد بُنيت بشكل حلزوني يُصعَد إليها من الخارج على طريقة الأبراج البابلية. ويُعدّ هذا المسجد الممثّل المعياري لعمارة المساجد العبّاسية. وعلى نسقه بني جامع أبي دلف كما يقول المؤرّخ البلاذري، ولهذا الجامع مئذنة لولبية أيضاً ولكنّها أصغر من مئذنة جامع سامراء الكبير، ويرتكز سقفه على عقود مدبّبة تمتدُّ حتى جدار القِبلة.

قصر الجوسق - القسم الثقافي
بقايا من قصر الجوسق الذي بناه المعتصم في سامراء (Getty)

بلغت عمارة المساجد في عهد المتوكل (822 - 861م) درجةً عالية من الفخامة والتميُّز، ورغم اعتمادها على المخطّطات الأُموية المستطيلة ذاتِ الصَّحن المُقنطَر الذي يُفضي إلى قاعة صلاة مغطّاة، فقد ميّزوا أنفسهم بالضخامة والتفنُّن في استخدام الطُّوب والزخارف الجصّية، وتطعيم ذلك بالأشكال المعمارية شديدة التنوّع بما في ذلك الأسقف الخشبية المدعّمة بالأعمدة الرُّخامية، والمزيّنة بالرُّخام والفسيفساء الزُّجاجي، كذلك كان لهم الفضل في ابتكار المآذن التي لم تكن قد ظهرت قبل ذلك، وقد أُضيفت أربع مآذن للحَرم المكّي في نهايات القرن الثامن عندما أُعيد بناؤه. 


قصور سامراء الضخمة

إلى جانب اهتمامهم بالعمارة الدينية، اهتمّ الخُلفاء العبّاسيون ببناء القصور كثيراً، وأقدمُ هذه القصور الباقية آثارها حتى اليوم قصر الأُخيضر الواقع على مسافة 180 كلم جنوبي بغداد، والذي بُنِي على نسقِ القصور الأموية الصحراوية مع عناصر من القصور الساسانية. والأُخيضر مستطيل الشكل 175 × 169 متراً، وله أربع بوابات، ثلاثٌ منها في أبراج نصف دائرية تبرز من الجدار، وواحدةٌ من دون بُرج. وفي مدخل القصر قاعة مقبّبة، وأمامها إيوانٌ يُفضي إلى قاعة مُقابلة لقاعة المَدخل. ثم إلى القاعات السَّكنيّة، ولا يخفى تأثير العمارة الساسانية على هذا القصر من حيث القِباب ذات المُنحنيات المدبّبة المبنيّة بالطُّوب والجصّ، والقناطر التي تزيّن أسطح الجدران الكبيرة، والقاعات الطويلة المقبّبة ذات الفراغات التي تلي الأقواس المدعّمة بأعمدة ثقيلة. 

ومن خلال الأوصاف التي نعثر عليها في كتب المؤرّخين والجغرافيّين، يُمكن القول إنّ قصور بغداد التي درسَت ولم يبقَ منها شيء، كان لديها مخطّطات شبيهة بقصر الأُخيضر، ولكنْ على مساحات أكبر.

المئذنة الملوية - القسم الثقافي
مئذنة مسجد سامراء المَلْوِية، الذي أسّسه المتوكّل (ويكيبيديا)

وقد أتاحت البقايا العمرانية لقصور سامراء، دراسة خصائص عمارة القصور العبّاسية، حيث امتازت تلك القصور التي بناها المعتصم بالحجم الهائل، والتقسيمات متناهية الدقّة، وكانت تضمّ ساحات وأفنية شاسعة، تحيط بها أجنحة سكنية متكاملة، وقاعات، وكان لبعض القصور بواباتٌ ضخمة إحداها تُفضي إلى الأُخرى. 

ويُعدُّ قصر المعتصم الرئيسي، المعروف باسم دار الخلافة، أو "قصر الجوسق"، أقدم قصور سامراء، إذ تم بناؤه لحظة وضع مخطّط المدينة. وبيّنت دراسةُ بقاياه وجودَ مدخل كبير على جانبه الغربي كان هناك يطلُّ على نهر دجلة؛ يتكوّن من درجٍ كبير يؤدّي إلى بوابة ضخمة على شكل ثلاثة إيوانات تُعرَف باسم باب العامة. وعند أسفل الدَّرَج، كان ثمة حوض مائي كبير مستطيل، تنبثق منه قناة إلى سرادق مرتفع بالقرب من النهر على بعد ثلاثمائة متر من البوّابة. وكانت البوّابة نفسها تضمّ طابقاً ثانياً يُتيح للخليفة أو الحرَس منظراً بانورامياً خلف البوابة. وقد حظي هذا القصر بدراسات مهمّة قام بها علماء آثار مرموقون مثل عالم الآثار الألماني إرنست إميل هرتسفلد (1879 - 1948م). 

ويمثّل "قصر العاشق" الشهير الذي بُني حوالي عام 870م، نمطاً أكثر تطوراً على صعيد الزخارف وموادّ الزينة، فقد كُسيت أرضياته بالرخام والفخّار المشوي. وكان في قاعاته زخارف جصّية مُتقنة، وقوالب تزيّن الجزء السفلي للجدران، وإطارات للأبواب والكوّات والأقواس بثلاثة أنماط مختلفة. 


قصور كثيرة

كشفت التنقيبات الأثرية عن قصور أُخرى مثل "قصر بلكوارا"، ويُسمَّى اليوم "المنقور"، وهو قصر أمر ببنائه الخليفة العبّاسي المتوكّل بين عامي 854 و859م، جنوبي سامراء الحالية، على بُعد ستة كيلومترات لابنه المُعتز، وبيّنت التنقيبات فيه وجود أفنيةٍ وقاعات عدّة ممتدّة على طوله، لها واجهاتٌ بعقود، وفيه أروقة تُفضي إلى عشرات المساكن، لكلٍّ منها فناء خاصّ، وينتهي ذلك كلّه بحديقة متّجهة نحو نهر دجلة. وأيضاً قصر العاشق الذي بُني نحو 880م، على الضفّة الغربية لنهر دجلة، وفي داخله قصر أصغر، مماثل له في التخطيط المعماري. 

وتتحدّث المصادر التاريخية عن قصر الذهب الذي بناه المنصور وسط عاصمته بغداد، وأقام في صدره القبّة الخضراء الشهيرة. وقصر الخُلد وراء باب خراسان، على ضفة نهر دجلة اليُمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير. وقصر الرُّصافة الذي أمر المأمون ببنائه شرقي نهر دجلة، وهو أوّل مبنىً أنشئ في هذا الجانب. وهناك قصر عيسى بن علي عمّ الخليفة المنصور، وقصر الوضاح، وقصر السلام الذي بناه الخليفة محمد المهدي، والقصر الحسني الذي بناه الوزير جعفر بن يحيى البرمكي، وكان يعرف باسم القصر الجعفري، وقصر الفردوس الذي شيّده المعتضد في جوار القصر الحسني.

أقواس في الجامع الكبير بسوسة التونسية- القسم الثقافي
أقواس في الجامع الكبير بسوسة التونسية، وتعود لفترة حُكم دولة الأغالبة (Getty)

ويُمكن الإشارة إلى قصر الميدان الطولوني في مصر، والذي شيّده أحمد بن طولون متأثّراً بجماليات المُشيّدات العبّاسية، وكذلك قصر العبّاسية الذي شيّده إبراهيم بن الأغلب التميمي عام 806م قرب القيروان.


خصائص ومزايا

تميّزت العمارة العبّاسية في حقبتها الذهبية بعدد من الخصائص، منها امتداد المساحة، حيث كانت القصور والمساجد والبيوت تمتدُّ على طُول شواطئ نهر دجلة لمسافات وصل بعضها إلى أربعين كيلومتراً. وانعكست الضخامة على القصور والمساجد، وخصوصاً في سامراء، وتم ابتكار المآذن للمساجد، ومنها المآذن الحلزونية (المَلْوِية) التي لم يكن لها نظائر في أماكن أُخرى. 

ومع أنّ القوس المُدبَّبة ذات الرَّأسين ظهرت قبل قيام الخلافة العباسية؛ إلّا أنها أصبحت قوساً مِعيارية في العمارة العبّاسية ابتداءً من بناء "قصر العاشق" بين عامي 878 و882م. وقد تم تطوير ثلاثة أنماط من الزخارف الجصية في مشيّدات سامراء، ولكنّها سرعان ما انتقلت إلى أماكن أُخرى. ومع أنّ نمطين من هذه الزخارف تم اشتقاقُهما من الأنماط الزخرفية الأموية، إلّا أن نمطاً واحداً كان جديداً تماماً، حيث استُخدم هذا النمط قوالب لإنشاء أنماط متكرّرة من الخطوط المُنحنية، والأفاريز وعناصر أُخرى. 

ومن المميّزات أيضاً، تلوين الجصّ بالأحمر أو الأزرق، وأحياناً كان يُدمج بالفسيفساء الزجاجية. وقد تُقطع هذه الأنماط الزخرفية بشكلٍ زاويٍّ، وهو ما يؤكّد أنّ هذا النموذج الأول الأكثر صراحة لظهور فنّ "الأرابيسك". وكما هو واضح؛ فإنّ الوصول إلى مرحلة التجريد في الزخرفة كان مُتعمَّداً لتجنُّب تصوير الكائنات الحيّة. وهذا الخيار أصبح مُعتمَداً في جميع أنحاء العالم الإسلامي. 


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون