ظلّ العرب قروناً ـ بعد إلحاقهم هَزيمتَيْن قاسيتَيْن بالغرب المسيحي على يدَيْ صلاح الدين في فلسطين، وعبد المالك السَّعْدي في معركة وادي المخازن بالمغرب ـ يعتقدون بتفوُّقهم، وأنّهم سادةُ العالَم إلى أن غزاهُم الغرب وهزمهم في عقر دارهم، لِيُوقفهم على تأخُّرهم عن ركب التقدّم الحضاري والعلمي، وليستعمرهم ويستغلّ خيراتهم.
هكذا اكتشف العرب أن غُزاتَهم الجُدُد يختلفون عن سابقيهم، لأنهم قدِموا إليهم مُجهَّزين بالسلاح والعِلم والمعارف، والفنون، فعاينوا فيهم العَجب، وتفطَّنوا إلى وجود الآخَر وتفوُّقه واختلافِه عنهم بصفته هويَّةً ثقافية مستقِلَّة.
في أجواء تلك الصدمة نشأ الأديب أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887)، الذي يسَّر له عملُه الصّحافي وتمكُّنه من لغته العربية ولغتَيِ المستعمر الإنكليزي والفرنسي من الاتصال بشكل غير مُباشِر بالثقافة الغربية عبر الكُتُب، ومُباشَرةً خلالَ إقاماته الطويلة نسبيّاً في فرنسا وإنكلترا، إضافةً إلى مالطا وإيطاليا، فتكامل لديه شرطا الترجمة الرئيسان: إتقانُ اللغة المنقولة والانغماسُ اللغويّ في وسطها الاجتماعي، ممّا يَضمَن تقليص منسوب سوء الفهم والتحريف، أثناء التحرير.
رغم عصاميّته، أبدى الشدياق ملاحظات قيّمة حول عمل الترجمة
لقد تهيَّأت للشدياق الظروف ليكون مترجِماً "مثاليّاً"، إلى حدٍّ ما، لأن قارئه يكتشف في شخصه، لا محالة، التكاملَ بين المترجِم النصّي والمترجِم الثقافي؛ فالأوَّل يهتمُّ بنقل النصوص بين لغتَيْن، بينما الثاني هو الرّحّالة الذي يَفِدُ ضيفاً على المجُتَمعات الغريبة، فيلتقط معلومات عنها ويُعرِّف بأرضها وحضارتها ومَعيشها ونظامها السياسي وحتى تاريخها، إلخ. ويُقدِّمُها إلى أهل ثقافته؛ والمعروف أن هذا النوع من الكتابة يُعَدُّ ترجمةً ثقافية.
والطريف لدى الشدياق هو أنه كان عصامياً في مجال الترجمة، شأنه شأن رفاعة الطهطاوي. فهو لم يتلقّ فيها أيّ تكوين، لأن كلّيات الترجمة ومدارسَها العُليا ظهرتْ في العالم بعد منتصف القرن العشرين، ومع ذلك، فقد أبدى ملاحظات ذات قيمة لافتة تَخُصّ عمل المترجِمين، وقد تمَثَّلتْ في مُناقَشته استراتيجيات بعضهم، ودَحضه اختيارات بعضهم الآخر.
ثم إنه عمَد إلى تفسير بعض مشاكل الترجمة، التي منها تهافُتُ ترجمةِ الغربيّين للأدب العربي، بأن ردَّ هذا التهافت إلى العامل المادّي، في كتابه "كشف المُخَبّا عن فنون أوربا"، بقوله: "وهكذا، فليس لعمري عِلم لغتنا عندهم سوى سببٍ يتوصَّل به إلى النتف من غيرها كالعبرانية والسريانية، فإن هاتيْن عندهم أهمّ وأنفع، وناهيك أنّ دخْل مدرس العبرانية في كمبريدج ألف ليرة في السنة، ودخل مدرّس العربية سبعون ليرة فقط، ومتى عرف أحدُهم شيئاً من لغتنا طابقه على غيره من تلك اللغة، واستخرج منه فائدة تختصّ بالمطابق عليه".
وتزخر كتابات الشدياق بملاحظات سديدة مَدارُها الترجمة بمشاكلها وقضاياها، لاحتكاكه المباشِر باللغات الأجنبية عبر الترجمة مُباشَرة بصفتها مهنة، وعبر الصّحافة التي تُعتَبَر رافداً أساساً يُزوِّد اللغة، باستمرار، بمفردات جديدة، وأساليب وافدة، وتراكيب غير مألوفة، إضافة إلى الوقائع الطارئة، ممّا كان يضعه على تماسّ دائبٍ ودائمٍ مع اللغة والثقافة في محنتهما مع الترجمة. لذلك، لم يكن من الغريب في شيء إيرادُه، في كتابه "ﻛﻨﺰ ﺍﻟﺮﻏﺎﺋﺐ"، نصّاً يستعرض فيه باقتضاب تجربتَه مع التَّعريب (أي مع الترجمة، عِلْماً بأن هناك فروقاً بين الاثنين)، يقول فيه:
"إذا كانَ ربُّ البيتِ أدْرى بما بِهِ/ فإنِّيَ أدْرى بالذي أنَا كاتبُ
ومَنْ فاتَهُ التعريبُ لم يدْرِ ما العنا/ ولمْ يَصْلَ نارَ الحَربِ إلّا مُحاربُ
أرى ألْفَ معنىً ما لَهُ من مُجانِسٍ/ لديْنا وألْفاً ما له ما يُناسِبُ
وألْفاً من الألفاظِ دونَ مُرادِفٍ/ وفصْلاً مكانَ الوصْلِ، والوَصْلُ واجبُ
وأسلوبَ إيجازٍ، إذِ الحالُ تقتضي/ أساليبَ إطنابٍ، لتوْعى المطالبُ
وعكس الذي قدْ مرَّ أكثر فاتَّئدْ/ ألا أيّهذا اللائِمِي والمُعاتبُ
فيا ليتَ قومي يعلمونَ بأنني/ على نكدِ التعريب جدّيَ ذاهبُ".
* أكاديمي ومترجم من المغرب