"السماء فوق غزّة متخيَّلة".. بريدٌ من 18 بلداً عربياً

22 سبتمبر 2024
من المعرض (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **أضخم معرض في تاريخ "غاليري المرخية"**: معرض "السماء فوق غزّة متخيَّلة" هو الأضخم منذ إنشاء الغاليري عام 2008، ويضم أعمال 54 فنانًا من مختلف الدول العربية لدعم غزّة بالتعاون مع "الهلال الأحمر القطري".

- **مواجهة فنية للعنف والدعم لغزّة**: الفنانون من دول عربية متعددة قدموا أعمالًا تعبر عن العنف وفارق القوة بين الضحايا والقتلة، مع تخصيص جزء من عائدات المعرض لدعم غزّة.

- **أعمال فنية تعبر عن المأساة والأمل**: الأعمال تتنوع بين اللوحات والمنحوتات، وتعبر عن المأساة والأمل في غزّة، مثل "الإجلاء بقوّة النار" و"إلى أين؟"، مما يعكس تجارب الفنانين في تصوير العنف والنضال والجمال.

إذا قُورن حجم معرض "السماء فوق غزّة متخيَّلة" بالمعارض الجماعية التي أقامها "غاليري المرخية"، فهو الأضخم في تاريخه منذ إنشاء الغاليري عام 2008، إلى الدرجة التي دفعت القائمين عليه إلى استحداث مساحة إضافية في طابقَي مقرّه الرئيسي ضمن مباني "مطافئ قطر - مقرّ الفنانين" في الدوحة.

شهورٌ قليلة استغرقتها التدابير اللوجستية لجمع أعمال أربعة وخمسين من الفنّانين والفنّانات العرب، في المعرض الذي افتتح مساء الثلاثاء الماضي ويستمرّ حتى السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر المُقبل. غير أنّ فكرة إطلاق هذه التظاهرة، التي تابعتها "العربي الجديد" منذ حروفها الأُولى، هي الفصل الذي يستحقّ أيضاً التنويه به.

فقد كانت استجابة الفنّانين فوريّةً حالما عرفوا أنّ ثمّة معرضاً جماعياً سيُقام تحيّةً إلى غزّة، وسيُخصَّص جزءٌ من عائداته لدعمها بالتعاون مع "الهلال الأحمر القطري"، كما أوضح لـ"العربي الجديد" منسّق المعارض في "غاليري المرخية" أنس قطيط.

مواجهة فنّية للعنف الدامي وفارق القوّة بين الضحايا والقتَلة

والفنّانون القطريّون المشاركون في المعرض هُم: يوسف أحمد وسلمان المالك وابتسام الصفار وهنادي درويش، بالإضافة إلى حمزة بونوّة من الجزائر، وعباس يوسف وعبد الجبار الغضبان ولبنى الأمين من البحرين، وعبد الوهاب عبد المحسن ومحمد عبلة ومصطفى رحمة ورندة فكري ووليد عبيد من مصر، وعلاء بشير وفيصل لعيبي صاحي وميسلون فرج وسيروان باران من العراق، وبدر محاسنة وحيان معاني وهيلدا الحياري ومي قدورة ومحمد الجالوس من الأردن، وعبد الرضا باقر وأميرة بهبهاني وثريا البقصمي من الكويت، وأناشار بصبوص وبشير محمد وجوزيف الحوراني وكاتيا طرابلسي من لبنان.

يُضاف إلى هؤلاء محمد بن لامين من ليبيا، وحسان بورقية وصفاء الرواس من المغرب، وحسن مير وحسين عبيد ومحمد الصايغ من عُمان، ونبيل عناني وسليمان منصور وخالد حوراني ورانية عمودي وتيسير بركات ووديع خالد وسعاد نصر مخول من فلسطين، وفهد النعيمة وزمان جاسم من السعودية، ومحمد عمر خليل من السودان، ويوسف عبدلكي وعصام درويش ومنير الشعراني وناصر حسين من سورية، وباكر بن فرح وسامي بن عامر من تونس، وعبد الرحيم سالم وفاطمة لوتاه من الإمارات، وحكيم العاقل من اليمن.


بريد إلى غزّة

سيطرت الاستجابة للحظة المأساوية على المنجز التشكيلي من اللوحات والأعمال النحتية؛ إذ إنّ جزءاً بارزاً من هذه الأعمال أُنتج في الفترة ما بين نهاية العام الماضي والعام الجاري، بما يواكب حرب الإبادة منذ بدئها على غزّة.

لكنّ المناخ برمّته أراد إرسال بريدهم إلى هذا المكان المعزول المحاط بـ"الأعداء والأمل"، كما كتب محمود درويش عام 1971 في نصّه المنشور بجريدة الأهرام المصرية، وفيه قال: "لا بريد إلى غزّة"، فكان الفنّانون يختارون من رصيدهم، سواء أكان سابقاً أم جديداً، ليؤكّدوا بأيديهم أنّ قيَم النضال والجمال ليست عزلاء ما دامت فكرة العدالة نابضةً وإنسانية وعابرة للغات.

الإجلاء بقوة النار - القسم الثقافي
"الإجلاء بقوّة النار" للفنّان الليبي محمد بن لامين (حسين بيضون/ العربي الجديد)

أنجز الفنّان الليبي محمد بن لامين عمله النحتي "الإجلاء بقوّة النار" في الأشهر الأُولى من العام الحالي، حيث أبرزُ مشهد وصلنا من غزّة هو الموت على دروب التشريد من مكان إلى آخر. ولو عُرض هذا العمل من دون عنوان، لكان كافياً لشرح ذاته وبالتلقّي ذاته في أيّ مكان من العالَم.

فما على مُشاهد هذا الخطّ الأفقي من الإجلاء الذي نعاينه إلّا أن يضعه الآن في سياقه الغزّي، بوصف غزّة مكان الإبادة غير المكترَث بأنّها جريمة في بثّ مباشر. وقد جعل الفنّان من درب المشرّدين مشغولاً بعبوات رصاص فارغة تُشكّل قوّة النار في الظهور، وتُشكّل أجساد الضحايا الخالية من التفاصيل، تفصيلاً واحداً مرعباً، وهو الحركة التي بالرصاص تنتفض الأجساد فتعبّر عن موتها أو انتظار موتها.


إلى أين؟

في هذا الدرب ذاته تظهر لوحة "إلى أين؟" للفنّانة الإماراتية فاطمة لوتاه، ولكنّ الصورة من مقطع جانبي للأُمّ وأمامها ابنتها لا تفصلهما مسافة، وتقطعان طريقاً إلى حيث مجهول في عيونهما ومعلوم بالملمتر من أجهزة المراقبة ونيران الاحتلال.

وفي العام الماضي، رسم الفنّان الفلسطيني نبيل عناني لوحة "غزّة" مليئةً بالتفاصيل الملوّنة بألوان حارّة وترابية، وممتدّة على أُفق النظر في جغرافيا غزّة المنبسطة من الخراب والموت المكفّن بالأبيض إلى توليفة في البعيد مضادّة في ترتيبها، حتى لكأنّها بستان ملوّن في كتاب مصوّر للأطفال.

ليست قيَم النضال والجمال عزلاء ما دامت فكرة العدالة نابضةً

وتحت هذه المواجهة الفنّية للعُنف الدامي وفارق القوّة الفادح بين الضحايا والقتَلة، اختار الفنّان القطري يوسف أحمد تكثيف الكارثة من خلال تجريدها وجعل غزّة مشهداً مكرَّراً في اثني عشر مُستطيلاً مندمجاً في تشكيل بصري واحد، ومُحترقاً كأنّ اللوحة لقطة من الفضاء تتحوّل فيها غزّة إلى نقاط وحُفر صغيرة محترقة، مستخدماً تقنيته المعروفة منذ سنوات من سعف النخيل والورق المصنوع يدوياً.

غزة نبيل عناني
"غزّة" للفنان الفلسطيني نبيل عناني (حسين بيضون/ العربي الجديد)

كذلك الحال مع المنحوتة البرونزية للفنّان اللبناني بشير محمّد بعنوان "نصر وسلام" تعبير مباشر عن علامة النصر، وهي الإسهام الثاني للفنّان ضمن أعماله الحديثة عن غزّة خلال العام الجاري، الذي يواكب عمله التركيبي الضخم المعروض في براحة مشيرب بعنون "صدى البراءة المفقودة".


تعرية

وضمن الأعمال التي نُفّذت إبان حرب الإبادة، واحدٌ للفنّان التونسي سامي بن عامر بعنوان "تعرية"، صادف أن ذهب بها مذهبَ القطري يوسف أحمد، إذ تظهر غزّة من الأعلى في جغرافيا تعرّضت للتعرية التامّة، وبمسحة مُخيفة ليس لها أيّ علاقة بعوامل الحتّ والتعرية الطبيعية. تبدو غزّة كما هي مكاناً مقصوفاً ومجرّفاً وبلا ملامح، ومن بعيد، وللمفارقة، فإنّ تصوير المشهد كأنّه بعينٍ من الفضاء، هو ذاته ما يُعاينه الناس على الأرض كما وصلتنا على ألسنتهم، فهُم في بعض الأوقات فقدوا قدرتهم على التعرّف إلى الأماكن لغياب كلّ المعالم الدالّة عليها.

بينما اختارت الفنّانة اللبنانية كاتيا طرابلسي ترجمة أشدّ المقولات سطوعاً بعد السابع من أكتوبر، وهي أن غزّة جعلت العالَم الراهن وتاريخه ومستقبله واضحاً. بهذا الوضوح جاء عملُها النحتي من موادّ مختلفة على قاعدة من الراتنج بعنوان "فلسطين"، وبلغة الملصق الفنّي، لكن هذه المرّة سيكون التشكيل على شكل رصاصة ملفوفة بالكوفية الفلسطينية ومكتوب عليها "من الميّة إلى الميّة".

فرح الحصاد - القسم الثقافي
"فرح الحصاد" للفنّانة الفلسطينية سعاد نصر مخول (حسين بيضون/ العربي الجديد)

 وجاءت الدلالات الرمزية التعبيرية في لوحة "الشاهد" للفنّانة الكويتية ثريا البقصمي لتُبرز المفردات التشكيلية مفكّكةً، بينما تأخذ مقطعاً من وجه طفولي تَظهر فيه العينان الشاهدتان وسط هذا التفكيك، بينما تحافظ قطعةٌ من البطّيخ الأحمر بألوانها الأربعة على بقائها: عينان منهكتان ما زالتا قادرتين على التحديق، كما أعادت لوحة الفنّان العراقي فيصل لعيبي صاحي "الصرخة" (2023) بما لا يمكن عدّه تكراراً من تاريخ الصرخات، إذ كلُّ واحدة ألم، وكلُّ ألم حكاية.


يوميّات غزّة

ولعلّ تجربة الفنّان السوري يوسف عبدلكي "يوميّات غزّة" (2024) من أكثر ما يمكن جمعُه في مدوّنة بصرية بليغة التأثير، ورهانها المرسوم بالفحم يفتح أمام متلقّيها عالماً من درجات واسعة بين الأسود والأبيض، بلدٌ يُدرّبه على عدم وجود ثنائية بيضاء وسوداء إلّا في نظرة أوّلية. لكنّ المشهد الذي يميّز فيه ساكن الأسكيمو أربعين درجة من الأبيض، هو في غزّة يبذل الكثير من الحياة لتمييز الدرجات حين تغطّي الأُفقَ سُحبٌ سوداء وبيضاء بكبسة زرّ يضغطها مجرم.

في سياق واحد، لكنّه تنويع على مقام فلسطين، ترسم سعاد نصر مخول "فرح الحصاد"؛ وهي لوحة تعود إلى العام الماضي، ذات ألوان زاهية بنسائها ذات الأثواب المطرّزة ووجوه ملوّزة مغفلة من أيّ تفصيل، لأنّ التفاصيل عليها أن تخدم الحصاد، بسنابل القمح، وغرابيل النساء المُحلّقة فوقهن، وغابة الألوان في القطبات المرصَّعة على الثياب.

بدورها، أخذت الفنّانة العراقية ميسلون فرج قطعة طولية من ثوب فلسطيني بعنوان "من على بعد" (2023)، وهي الجزء الأعزّ من الثوب، تتموضع في صدره وتُبذل في سبيلها أكبر كمّية من خيوط التطريز.

يوميات غزة - القسم الثقافي
"يوميّات غزّة" للتشكيلي السوري يوسف عبدلكي

ويستعمل الفنّان المصري وليد عبيد ثيمة الثوب الفلسطيني في عمل أنجزَه عام 2018 بعنوان "فلسطين الثائرة"، وفيه تتحوّل كلّ مساحة اللوحة إلى لون صخري، ما عدا المرأة المنحوتة من روح الصخرة، ولكنّها قادرة على أن تكون امرأة بذاتها وبعينين وثّابتين.

وتُذكّر لوحة الفنّان السعودي فهد النعيمة "بدون عنوان" (2023)، بأجسادها الطويلة المصطفّة كالأعواد، بتجربة الفنّان بول غيراغوسيان، وهي لوحة ملهمة دائماً كلّما طالعنا كتلة بشرية لا نعرف عددها ولا هوياتها، لكنها تترك أثراً في متلقّيها.
وما بين تواريخ الأعمال الفنّية ومرجعياتها ومحفّزاتها ما يفتح النصوص البصرية على إمكانيات بقائها بقوّة دفع ذاتية، حتى لو كانت مباشرة أو غير مباشرة.


مخيّم الشاطئ

لدينا لوحة "مخيّم الشاطئ" للفنّان الفلسطيني تيسير بركات، وهي مرسومة عام 2022، وفيها حصانٌ في مقطع عرضي عُلوي ملوّن كأنّه "باليتة" ألوان قديمة الاستعمال، وفي الأفق بيوت تكاد تكون وجوهاً بشرية.

وهذه أبواب الفنّان الأردني محمد الجالوس المرسومة عام 2018، هي أبواب تيسير بركات، لكنّها عند الجالوس ما زالت كما تُركت عام النكبة، 1948، وهي ذاتها أبوابنا ووجوهنا في "النكبة المستمرّة" التي اجترح عنوانها الروائي اللبناني إلياس خوري الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي، في كتابه الأخير.

وقبل الجالوس بعام، رسم الفنّان الفلسطيني سليمان منصور لوحة "أُمّ الشهيد"، وهي لو كانت من دون عنوان واسم فإنها تشير فوراً إلى صاحبها؛ أحدِ أبرز الأسماء التشكيلية الفلسطينية منذ مطلع السبعينيات، مثلما تتصادى مع أعمال رفاقه الفنّانين الذين يرسمون بشراً وشجراً وحجراً من أرواحهم الفردية والجماعية. لوحةُ منصور تضمّ ثلاث نساء، واحدة منهنّ أُمّ الشهيد، وكلّهن فلسطينيات يتقاسمن الخسارة، تدلّ ثيابهن عليهن، وتدلّنا على شهيد وقع من اللوحة.

من المعرض - القسم الثقافي
جانب من المعرض (حسين بيضون/ العربي الجديد)

شارك كلّ الفنّانين برغبة واضحة مفادُها مؤازرة المظلومين في وقفة تعبيرية، لم يكُن بعضها منخرطاً مباشرةً في تجسيد اللحظة الكارثية، بل إنّ المروحة الواسعة من جماليات الحياة فعل مقاومة، يستوعب الملصق الثوري الضروري واللحظة التي تقدّم التأمُّل على الضرورة.

وبذا جاءت لوحة الفنّان المصري محمد عبلة "من وحي الإمام" (2024) المرسومة تشكيلاً حروفياً بمواد مختلطة على قماش، غير أنّها لا تُريد أن تُوحي إلّا بجدار غرافيتي رسمَه الفنّان نيابةً عن العابرين. هذا هو محمد عبلة الذي اتخذ موقفاً سياسياً مباشراً دون تردّد، حين أعاد إلى ألمانيا في آذار/ مارس الماضي "وسام غوته"، احتجاجاً على موقف حكومتها من العدوان في غزّة.


الدخيل

كما أنّ لوحة "الدخيل" (2014) للفنّان العراقي سيروان باران تُعيدنا دائماً إلى عنوان واحد من معارضه الشهيرة "الجمال القاسي"، وهو العنوان الذي يبدو أقدم في جوهره من عنوان المعرض المُقام سنة 2020، إذ يصلح للدلالة على ما يريد أن يرسمه الفنّان من هذا العالَم القاسي والذي تسيل على جوانبه الألوان. في اللوحة أُسرة أو مجموعة متآلفة وكلبها مقعٍ على الأرض، بينما كلبٌ ضارٍ يدخل بشراسته إطار اللوحة.

عاطفة جياشة - القسم الثقافي
"عاطفة جيّاشة" للفنان اليمني حكيم عاقل (حسين بيضون/ العربي الجديد)

ومن اليمن أرسل حكيم العاقل لوحة "عاطفة جيّاشة" (2010) لامرأة وطفل، وهي تنتمي إلى تجربته المعروفة منذ سنوات، والتي أنجز فيها عشرات اللوحات بعين الطائر.

وجاءت لوحة سلمان المالك "امرأة في رداء أسود" (2021) واحدةً من أفضل معالجاته لفكرته الأثيرة عن المرأة ذات الرداء التقليدي في قطر، حين اكتفى بدرجات الأسود والأبيض لتكون لها السيادة، مع طيف بالغ الخفوت للّون الصحراوي.

هذه رحلة مع أجيال عديدة من الفنّانات والفنّانين عبر أكثر من أربعة وخمسين عملاً، مع أغلبية شاركت بعمل واحد، تتنوّع فيها الطروحات الفنّية، وتستحقّ أكثر من زيارة للتعرّف إلى فنّانين عرب من ثمانية عشر بلداً، يجترحون ويغامرون ويختلفون في أفكارهم التشكيلية وخاماتهم، وتجمعهم لحظة إنسانية واحدة.
 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون