يرتبط الصعود الراهن للرواية الخليجية، الذي يكاد يكون ظاهرة، بالتحوّلات الاجتماعية الكبيرة التي شهدتها مجتمعات الخليج في الثلث الأخير من القرن العشرين، مع نشوء مجتمعات تعدّدية ثقافية، من خلال ظاهرة الهجرة إلى المنطقة، والوفرة النفطية وما أفضت إليه من تحوّلات، واكتمال الجهاز البيروقراطي للدولة وتطوّره، وما إلى ذلك.
"وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة ترى أنّ الرواية الخليجية، التي تأخّر اكتمال ظاهرتها، لا تنفصل عن هذه التحوّلات.
وبهذا الهاجس المعرفي، جاءت ندوتها التي انطلقت أمس وتستمرّ اليوم بعنوان "الرواية الخليجية: السوسيولوجيا الموازية"، متناولةً بالبحث طبيعة وأنماط تمثيل الروايات الخليجية للبُنى المجتمعية في بلدان الخليج، وسبر المدى الذي يمكن للرواية الخليجية وتمثُّلها لـ مجتمعات الخليج أن تُعين على فهم أدقّ وأعمق وأوسع للمجتمعات الخليجية.
في أولى جلسات الندوة، وقد أدارتها الأكاديمية والكاتبة حنان الفياض تحت عنوان "الرواية الخليجية وسؤال الهوية"، تحدّث كلٌّ من محسن جاسم الموسوي، أستاذ الأدب العربي الكلاسيكي والحديث والدراسات المقارنة والثقافية في "جامعة كولومبيا" بنيويورك، وسعد البازعي، أستاذ آداب اللغة الإنكليزية والأدب المقارن في "جامعة الملك سعود" بالرياض.
التجانس والتباين
سعى محسن الموسوي، في ورقته "التجانس والتباين في السرديات الخليجية"، إلى تمييز مواقع التجانس والتباين في عدد من الروايات والقصص القصيرة الخليجية، نائياً عن الخطّ السائد الذي تختلط فيه الإرادة السياسية للفاعلين بالقضايا الواقعية التي تتطلّب جهداً من البحث.
وبحسب مرئياته، تبدو هذه السرديات كمن يريد أن يُسائل ويفاوض في آن واحد الفهم السائد بأنّ المجتمعات الخليجية تؤكّد هويتها هذه كأمر متأسّس محلّياً داخل إطار عربي جغرافي ثقافي؛ إذ من المفروض أنّ اللغة مركزية في تكوين الأمّة كما يرى المثقّفون القوميون على شاكلة ساطع الحصري، ومن قبله الشاعر معروف الرصافي ودعاة آخرون منذ نهاية القرن التاسع عشر.
مثل هذا الاستخدام السردي - كما يمضي - لا ينفي التساؤل في الحيثيات الخاصّة بالهوية، لا سيما عندما يكتسب موضوع الهوية قوّة أكبر في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، وظهور اقتصاديات بترولية في تعالق مع رأس المال العولمي وأسبقيات السوق ومستلزماته.
يكتسب موضوع الهوية قوّة أكبر في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط
وفي حين مثّل اكتشاف النفط والتحوّلات التي نتجت عنه، فضلاً عن التحوّلات التي عرفتها مهنة البحث عن اللؤلؤ، الموضوع الأبرز في كتابات ثمانينيات القرن العشرين، حدث تحوُّل في زاوية الكتابة منذ منتصف التسعينيات، من دون أن يُهجر تماماً موضوع تأثير النفط في أسلوب الحياة.
هذا التحوّل يلاحظ الموسوي انعكاسه في عدد من الروايات والقصص القصيرة الخليجية التي تُعبّر كلُّها عن مدى تعقّد الواقع الاجتماعي، ولا سيما ما يتعلّق بأزمة الهوية، والزواج المختلط، والعمالة الأجنبية.
وفي المجمل، تحاج ورقته في مسألة مفادها أنّ أموراً كثيرة في هذه الروايات الخليجية تتطلّب فهماً أفضل، ليس لما يبدو من "تجانس" بينها فحسب، بل على نحو أولى لما بينها من تباين ومناطق رمادية أيضاً.
وكلّ ذلك يقود، ضرورةً، إلى قراءة اللغة واللهجات العامية والدارجة، بوصفها مواقع مهمّة للكشف عن التعقيد الذي غالباً ما تجري مواراته إرضاءً للجمهور. وعليه تناول الباحث هذه التوليفة المركّبة من القصص القصيرة والروايات، بوصفها مؤشّرات اجتماعية وسياسية واقتصادية، ومادة أرشيفية تشير إلى المستقبل، في الوقت الذي تتحدّث فيه عن الحاضر.
وختم الموسوي بأنّ السؤال عن الانتماء والهوية لا يحمل إجابة محدّدة، بل لا بدّ من تفاوتات بين الاثنين، وأنّ شغل الكاتب هو في ابتكار ما هو خاصّ، وليس من الضروري أن يكون هذا هو الإطار العام لهويتك حرفياً، ففي التخييل قوّة أُخرى داخلية.
مدن التيه
اختار سعد البازعي ورقةً "قد تكون مثيرة للجدل" على حدّ قوله، متوجّهاً إلى السؤال المطروح عن هوية الروائي عبد الرحمن منيف (1933 - 2004): أهو كاتب سعودي أم كاتب عربي لا ينتمي لأي قُطر بعينه؟
ففي ورقته التي تحمل عنوان "مدن التيه: عبد الرحمن منيف وسؤال الهوية"، قال إنّ السؤال قد يكون محسوماً لدى من يرون أنّ منيف سعودي، لكن وصفه في العديد من الكتب والمقالات التي تحدّثت عنه، والحوارات التي أُجريت معه، تُشير إلى حيرة من تعرّفوا إليه ومن تعرّفوا إلى أدبه أيضاً.
تحوّلاتٌ لا تنفصل عنها الرواية الخليجية التي تأخّر اكتمال ظاهرتها
وعاين البازعي الشواهد التي تشير إلى أنّ منيف كاتبٌ سعودي فعلاً، وتلك التي تشير إلى عكس ذلك. ومن الشواهد التي تؤكّد هويته السعودية أسرته وجذوره في منطقة القصيم وسط السعودية، وكذلك اهتمامه بتاريخ السعودية، وتمثّله له في خماسّية "مدن الملح" التي كتبها بين عامي 1984 و1989.
لكنّ هذه الشواهد غير كافية بحسبه، فالعبرة ليست بالجذور ولا بالاهتمام، وإنّما بكون منيف وُلد خارج السعودية، ولم ينشأ فيها، ولم يتعلّم ولم يعمل فيها أيضاً، بل إنّه لم يحمل جواز سفر سعودياً، والأهمّ من ذلك أنّه كتب أعماله خارج السعودية، على نقيض الكتّاب السعوديّين الذين تشكّلت تجاربهم وأعمالهم من داخل السعودية، ولم يتأثّر كما تأثّر الكتّاب الذين يمكن وصفهم بالسعوديّين بتجربة الحياة في السعودية، بشروطها، وبجوانبها المختلفة، وإنّما ظلّ يستدعيها من بعيد، وفي أواخر أعماله فقط.
هذه العوامل التي اتّكأت عليها أطروحة البازعي تفيد بأنّ منيف كاتب عربي أكثر منه سعودي، بل إنّ انتماءه إلى السعودية أمر مشكوك فيه: "وأنا أقرب إلى نفيه، لكنّي لا أنفيه تماماً، فهو يظلّ أقرب إلى السعودية من كتّاب عرب عاشوا فيها وتمحورت أعمالهم حولها".
فمثلاً، يرى أنّ الروائي الأردني الفلسطيني إبراهيم نصر الله عمل في السعودية بعض الوقت وكتب روايته "براري الحمّى" عن تجربته في المجتمع السعودي، وهذا لا يجعله أقرب إلى السعودية، ناهيك عن جعله سعودياً. وفي المقابل، فإنّ الكاتب السعودي غازي القصيبي كتب عن حياته في مصر رواية "شقّة الحرية" دون أن يجعله ذلك مصرياً، ويصدق ذلك على كتّاب كثيرين.
وفي هذا رأى المتحدّث أن خماسية "مدن الملح" التي تدور أحداثها في شرق السعودية، حيث اكتُشف النفط، لا تقلّ أهمية عن أُسرة منيف في تأكيد انتمائه إلى البلد الذي لم يولد ولم يعش فيه ولم يحمل جواز سفره.
غير أنّه انتماء آخر جعلته يستدعي قصيدة محمود درويش التي يقول فيها: "أطل كشرفة بيت على ما أريد"، فهذا هو منيف يُطلّ من بعيد على السعودية دون وجل من نظام سياسي أو تخوّف من رقيب اجتماعي يحسب لهما الروائي الذي يعيش في الداخل حساباً.
ويواصل في هذه النقطة قائلاً إنّ الروايات والشعر أيضاً وُلدا في ظروف لم يعرفها منيف ولم يدفع لها ثمناً، ولم يطارده مثلاً كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" الذي "صنع أجواء من الإرهاب"، مضيفاً: "صحيح أنّ النصوص لم تخضع تماما للقيود، لكنّها تشكّلت ضمن شروطها".
أخيراً، خلص إلى أنّ منيف كاتب عربي حمل صفة لا تنطبق على غالبية الكتّاب، وظلّ نهباً لتيه المدن ومنافي الحدود وجوازات السفر، لم ينتم إلى السعودية، كما أنّه لم ينتم إلى بلدان عربية أُخرى كالذين تجذّروا فيها، وربما كان أقرب إلى هذا البلد أو ذاك، لكنه لم يكن في أيّ منها، على حدّ تعبيره.
والندوة، التي تُختتم اليوم، يشتمل جدول أعمالها خمس جلسات، ويشارك فيها عشرة باحثين، وتبحث عناوينها في أسئلة اتصال الأدب الروائي الخليجي بمسائل الهوية، والبنى المجتمعية، والآخر، والذاكرة التاريخية، ورواية المرأة، وتتضمّن كذلك جلسة حوارية يشارك فيها ثمانية روائيّين خليجيّين بعنوان "تمثيل المجتمعات الخليجية كما يبدو من المطبخ الروائي".