قبل سنة من اليوم، وفي معرض "تيرانا الدولي للكتاب" في دورته لعام 2022، فاجأ الروائي الألباني بن بلوشي Ben Blushi المشهد الثقافي في بلاده بكتابه الجديد "41 سرّاً"، الذي قدّم فيه صورةً غير مألوفة عن الروائي إسماعيل كاداريه، وهو ما جعل الكتاب يطغى على الكتب الأُخرى في المعرض (انظر "العربي الجديد"، 27 شباط/ فبراير 2022).
يمكن القول إن كلّ كتاب لبلوشي يثير ضجّة منذ روايته الأُولى "أن تعيش في جزيرة" (تيرانا، 2008)، والتي اتُّهم فيها بمغازلة الإسلاموفوبيا المتصاعدة في ألبانيا، وصولاً إلى روايته الأخيرة "المؤامرة"، التي لاقت رواجاً كبيرا في الدورة الأخيرة من معرض الكتاب، التي احتضنتها العاصمة الألبانية الشهر الماضي.
ومع أنّ الرواية، التي كتبها بلوشي خلال ربيع 2023، هي من وحي الخيال وتتناول أحداث مؤامَرة تتعرّض لها ألبانيا في 2044، وصدرت عن دارين للنشر معروفتين في بريشتينا وتيرانا مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلّا أنّه استجد بعد صدورها حدثان هامّان كان لهما دورٌ في إثارة الاهتمام بالرواية وتحقيقها مبيعات كبيرة.
صَبّت الرواية في الانقسام الألباني حول الحرب على غزّة
أمّا الحدث الأوّل، فهو تصاعُد الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزّة التي أصبحت تقسم الألبانيّين إلى قسمَين: مؤيّد لـ"إسرائيل" ومُعارِض لها. وأمّا الحدث الثاني، فهو توقيع الحكومتين الألبانية والإيطالية على اتفاقية بروما في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لاقت معارضةً في ألبانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، لكونها تنصّ على قيام إيطاليا ببناء مركز كبير للاجئين قرب ميناء شينغين الواقع شمالي ألبانيا، تجمع بموجبه اللاجئين الذين دخلوا الأراضي الإيطالية وتفرزهم هناك بين من يستحقّ الإقامة وبين من لا يستحقّها، لكي تتولّى السلطات الألبانية التصرّف معهم.
مع هذين الحدثين، بدا أنّ الرواية لا تقرأ المستقبل، وإنّما تستعرض هموم الألبان وما يحدث في بلادهم ونظرتهم إلى الآخرين الذين أصبحوا حاضرين فيها؛ فقد كانت ألبانيا خلال الحكم الشيوعي (1944 - 1990) معزولةً عن العالم، وكان لدينا جيلان لا يعرفان عمّا يحدث خارج ألبانيا سوى ما يريده النظام، ولم يعتادوا على رؤية أجانب في بلادهم.
ولكن مع انهيار النظام الشيوعي في 1990، انفجرت ألبانيا من الداخل بموجات عفوية تجاوزت الحدود إلى الدول المجاورة وما بعدها، جعلتها تفقد ثلث سكّانها. ومع التطوّرات اللاحقة وانتقال ألبانيا السياسي من الشرق إلى الغرب، وافقت على استضافة عناصر "مجاهدي خلق" الإيرانية الموجودين في العراق بعد أن أصبحوا غير مرغوب بهم بعد 2003، كما استضافت مؤخَّراً أفغانيّين، خصوصاً بعد انسحاب قوّات الولايات المتّحدة من أفغانستان في 2021. ومع هذا وذاك، أصبحت ألبانيا معبراً أو مستقرّاً لبعض اللاجئين الآسيويين والأفارقة بعد 2011.
ليست نبوءة
في هذا السياق، بدأ يتعاظم في ألبانيا القلق من "الطاعون الأبيض" أو انكماش السكّان نتيجة للهجرة الكبيرة التي حدثت منذ 1990، وانحسار المواليد، وكذلك من مستقبل الألبان في غرب البلقان مع الموجات القومية التي تريد لكلّ أُمّة أن تكون لها دولتها القومية (صربيا الكبرى، ألبانيا الكبرى... إلخ). وبالاستناد إلى هذا السياق، بنى بلوشي روايته المتخيّلة عمّا ستكون عليه ألبانيا في 2044، ليمسّ بذلك الوتر الحساس في ألبانيا والجوار (كوسوفو) وما هو أبعد (الشرق الأوسط).
ومع أنه أكّد في أكثر من مقابلة أنّ الرواية ليست "نبوءة" وأنّه "ليس نبياً"، إلّا أنّ العمل قُرأ على هذا الأساس، واستعرضتها الأوساط المختلفة بما ينسجم مع قلقها وفهمها لما يجري في العالَم.
قصة لاجئ أفغاني يصبح وزير دفاع في ألبانيا عام 2044
وباختصار، تنطلق الرواية من مدينة شنغين Shëngi الساحلية (على الطرف المقابل لإيطاليا في البحر الأدرياتيكي الضيّق)، حيث بقيت هناك، في المكان نفسه الذي سيُبنَى فيه مركز كبير للاجئين القادمين إلى إيطاليا، مجموعةٌ أفغانية لم تستطع السفر إلى الولايات المتّحدة، وأخذت تتكاثر بسرعة حتى تمكّن أحد أفرادها (محمد دوراني) من الفوز في الانتخابات المحلّية، ليُصبح رئيساً للبلدية في 2043. وبعد أن يتزوّج بألبانية، ينخرط في اللعبة السياسية للبلاد ويصبح وزيراً للدفاع في الحكومة الجديدة التي تشكّلت في 2044.
ونظراً لتفاقم الأوضاع في المنطقة، ومن ذلك اجتياح قوّات صربيا شمال كوسوفو ذا الأغلبية الصربية، يتحمّس وزير الدفاع محمد ديراني لدغدغة مشاعر الألبان بـ"تحرير كوسوفو" وضمّها إلى ألبانيا لكي تصبح دولة ذات شأن في غرب البلقان، إلّا أن هذا الطموح يفشل بسبب "مؤامرة" يشارك فيها ثلاثة يهود يعبّرون عن التنوّع الجديد في ألبانيا، مع أنَّ هؤلاء اليهود (صهيوني وشيوعي ومغامر) لهم آراء ومواقف مختلفة أصبحت الآن تضرب على الوتر الحسّاس، ومن ذلك الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيّين.
من هؤلاء ليون تروتسكي، حفيد ليون تروتسكي، قائد الجيش الأحمر في روسيا البلشفية، الذي كان صحافياً يجوب مناطق الألبان في مقدونيا المجاورة في 1913. إلّا أنّ الروائي يتخيّل ارتباطه بفتاة ألبانية حملت منه ولداً، ولكنّ الحفيد استردّ اسم جدّه وحمل أفكاره وسعى في ألبانيا إلى تنظيم استفتاء حول اتحاد بين البلاد وروسيا، ولكنّ هذا الاستفتاء لم يشارك فيه سوى 44 شخصاً، وجاءت النتيجة مناصفة بين دعاة الاتحاد ومعارضيه!
عن النازية والصهيونية و"إسرائيل"
في هذا السياق، نجد أنّ صورة اليهود و"إسرائيل" في الرواية تصبح مُهمّة الآن في الصحافة الألبانية، لأنّ ما ورد على لسان شخصيات الرواية يبدو كأنّه مساهمة مباشرة في الانقسام الحالي في ألبانيا حول الحرب الدائرة على غزّة، وحتى حول اليهود والصهيونية و"إسرائيل"، ما جعل المؤلّف ضيفاً متكرّراً في وسائل الإعلام.
وهكذا نجد أنَّ المؤلّف يعترف في مقابلة مع قناة "نيوز 24" الألبانية، نُشرت في جريدة "بانوراما" الأكثر رواجاً، أنّه يُعبّر عن نفسه على لسان بطل الرواية عندما يقول: "لو لم تكن 'إسرائيل' لما كان هناك صراع"، ليُحطّم بذلك صورة مستقرة عند الألبان، ويبوح بما لا يتجرأ الآخرون على قوله، لا سيمّا في ما يتعلّق بالموقف من "إسرائيل".
ويستعيد الكاتب أوضاع اليهود في أوروبا، وفرانكفورت بالتحديد، ليكشف عن مدى التمييز الذي كان يُمارَس ضدّهم، ويعتبر أنّ "النازية وُلدت في هذه الكراهية لليهود، ولذلك حاول الصهاينة أن يُقيموا دولة لهم، أي 'إسرائيل' اليوم".
وفي هذه المقابلة، التي وضعت "بانوراما" مانشيتاً لها "لو لم تكن إسرائيل لما كان هناك صراع"، يصل الأمر بالروائي إلى السؤال والجواب معاً: "ما هو أكبر صراع في العالم اليوم؟ لو لم تكن إسرائيل لما كان هناك صراع".
وهذا الكلام على أهميته ينبغي ألّا يعطي انطباعاً أن بلوشي مساند بالضرورة للقضية الفلسطينية، فقد سبق وانجرف في يومي الثامن والعاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي و"تضامن" مع "إسرائيل" بعد عملية "طوفان الأقصى" وتبنى السردية الإسرائيلية للأحداث في أكثر من منشور على صفحته، منشورات فندتها معظم تعليقات القرّاء على صفحته. ولعل هذا "الموقف الأوروبي" من "إسرائيل"، يساعد على تحقيق نبوءة الكاتب رونالدو تشافوكو R .Qafoku الذي كتب مقالاً يقول فيه: "في 2044، يكون بن بلوشي قد بلغ الخامسة والسبعين مع إنتاج غزير، وسيكون لألبانيا مرشّحٌ يستحقّ جائزة نوبل".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري