الجاحظ "مُقارِنيّاً"

14 يونيو 2023
فرج عبّو/ العراق
+ الخط -

يكاد يُجمع العرب، مِن أهل الفكر والأدب، على أنّ أبا عثمان الجاحظ مَثّل لحظةً استثنائية في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، بما اجترح من أشكال جديدة في الكتابة، تتأكّد في مُراوحته بين السرد والنقد، وفي اجتهاداته الكلامية، مِن بين مجالات أُخرى طرَقها هذا الموسوعي الفريد، الذي يُعدّ أحد أبرز المتكلّمين والمُبدعين والنقّاد دون مراء.

ولا يخفى أنّ قراءة الجاحظ للمعارف الغزيرة، التي توافرت له في زمانه، قد أسعفته الإفادةُ منها في تطوير ذاته والارتقاء بها، وانعكست في نصوصه الكثيرة، التي أغنى بها المكتبة العربية والإنسانية، حتى إنه استحقّ أن يُصَنَّف موسوعيّاً غيرَ مُنازَع في ذلك، قبل ظهور جماعة الموسوعيّين المتبحّرين في أوروبا بقرون.

اللافت أنّ الجاحظ اشتُهِر بعدم إتقانه لساناً آخر غير العربي، لكنّ الأكيد هو خوضه في فكر وأدب ثقافات الأمم القديمة والمعاصرة له، وإبداؤه ملاحظات بشأنها، خصوصاً في آدابها، وهو ما يُثير فينا التساؤل بصدد الصيغة التي تلقّى بها النصوص غير العربية.

ولن نتردّد في الحسم بأنّه ما كان للجاحظ أن يعقد مُقارناته الشهيرة لولا قراءتُه تلك النصوص مترجَمةً إلى العربية، نظراً لرواج سوقها في عصره، بفعل انفتاح المجتمع على الغريب لدى الأمم التي حكمها العرب، وبسبب دعم الدولة للتلاقح الثقافي، الذي من وسائله الناجعة ظهور حركة ترجمية نشيطة، لم يتردَّد بنو العباس في تبنّيها بالمؤسَّسات والرجال والبرامج، وفي رعايتها وحمايتها.

ما كان ليعقد مقارناته لولا قراءته ترجمات إلى العربية

يَكشف الجاحظ عن نشاطه المقارني من خلال نصوص كثيرة مبثوثة في أعماله، لعلّ أهمّها تلك الواردة في كتابه "الحيوان"، حيث أبدى فيه آراءه الشهيرة بخصوص الترجمة؛ هناك نجده، في معرض حديثه عن "حداثة الشعر" العربي، يستعرض أسماء عظماء اليونان، محدِّداً بعضهم ممّن اطّلع على أعمالهم بالتأكيد؛ مثل كُتب أرسطاطاليس، ومعلّمه أفلاطون، ثمّ بطليموس، وديمقراطس، لأنّه يُشير إلى مضامينها ومضامين غيرها بقوله "وقد نُقلت كُتب الهند، وتُرجمت حِكم اليونان، وحُوّلت آداب الفرس؛ فبعضها ازداد حسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً".

ويعني لنا هذا أنّه تلقّى تلك الكُتب بصفته قارئاً، ما أتاح له أن يعقد مقارنات بينها وبين ما كان يروج بين يديه من كُتب عربية، وإلّا كيف يمكن أن نفهم قوله "ولو حُوِّلتْ حكمة العرب [أي الشعر]، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن؛ مع أنّهم لو حوّلوه لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كُتبهم، التي وُضعت لمعاشهم وفطنهم وحِكمهم"،  لنتبيّن أنّه كان منخرطاً في النشاط المُقارني ممارسةً، لكنْ دون وعي نظري بالمَبحث الدراسي المؤطِّر، الذي يُعرَف لدينا الآن بالأدب المقارن، وهو آخِر ما ظهر في مجال الدراسة الأدبية بعد النقد الأدبي، فنظريات الأدب، ثم تاريخ الأدب.

ويتهيّأ لي أن توافُر نصوص شعرية لشعوب أُخرى مترجَمةً إلى العربية، في العصر العبّاسي، هو ما قاد الجاحظ إلى إبداء رأيه الجريء في شأن الشِّعر العربي، بذهابه إلى أنّ "فضيلة الشِّعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلّم بلسان العرب"، بمعنى أنّه كان لديه اقتناعٌ بأنّ الشِّعر العربي لا يتجاوز فضاءه الثقافي، على الرغم من الهالة التي يحيطه بها أهلُه، وبكلمات أُخرى، إنه شِعر لم يَرقَ إلى أنْ يعانق الأفق الإنساني إلى حدودِ عهد الجاحظ.

هكذا يتأكّد أنّ الترجمة - بما فتحتْهُ من نشاط مُقارني أمام القرّاء والنقّاد - كانت الماهدة لظهور الأدب المُقارن، بدليل أنّ اشتغال الجاحظ بقراءة المؤلَّفات مترجَمةً هو الذي قاده إلى اكتشاف المختلف، وإلى الانتباه إلى ما لدى الأمم الأُخرى من تجارب مغايرة افتقدتها الثقافة العربية الإسلامية، ليكون من أوائل المُقارنين العرب، بل وفي العالَم.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون