الثقافة في تونس 2020: شعرة معاوية التي انقطعت

28 ديسمبر 2020
من وقفة احتجاجية للمسرحيين في "مدينة الثقافة"، أكتوبر 2020 (فتحي بلعيد)
+ الخط -

لا شك بأن فيروس كورونا كان الفاعل الثقافي الأبرز في 2020، فقد احتكر ضبط إيقاعات كل الفضاءات الإبداعية فأغلق المسارح والغاليريهات وقاعات السينما، وأوقف معظم المهرجانات والفعاليات، ولم يحضر إلا الحد الأدنى من الجمهور حين انتظمت بعض التظاهرات (المسرحية خصوصاً).

حدث كل ذلك في انسجام تام مع مؤشرات انتشار الفيروس الذي كان مروره مناسبة جديدة لتعرية عدّة ثغرات تعرفها الثقافة في تونس. لعلّ أكثر الأسئلة إحراجاً في هذا السياق: ما هو الدور الاجتماعي الذي تلعبه الثقافة؟ أي ما الفرق بين تنشّط الحياة الثقافية وتوقّفها؟ جاء كوفيد-19 ليفرض تجسيد هذه الفرضية القُصووية على أرض الواقع، وحين حدث ذلك كشف الكثير من التصحّر المسكوت عنه، كما كشف في الأثناء حالة من الافتقار إلى الخيال الابتكاري كان يمكن أن يفيد في تنشيط الأدب والفنون والمعارف بأدوات أخرى غير الدعم الرسمي. وإذا كانت الأدوات الافتراضية قارب النجدة في أماكن أخرى من العالم فإن استثمارها في تونس جاء في حدوده الدنيا لنكتشف أن البلاد تعاني - إضافة إلى اهتراء بناها التحتية - من افتقاد أفق تكنولوجي هو أحد أعمدة بناء مستقبلها.

من المعروف أن الدولة، من خلال جهاز وزارة الثقافة أساساً، هي الفاعل الأساسي في تحريك الحياة الثقافية، وهو موقع حرصت على احتكاره خصوصاً بعد منعطف "الثورة" (بدايات 2011) التي كانت لحظة اهتزاز قويّ لهذه المركزية قبل أن تنجح في استرجاعها تدريجياً، غير أن ضربة 2020 كانت أشدّ على ما يبدو، ففي حين نجح دائماً الوسيط الرئيسي بين متطلبات الحكومة ومطالب المثقفين، أي وزير الثقافة، في إيجاد معادلة للإبقاء على شعرة معاوية ممدودة بين الطرفين، يبدو أن كوفيد-19 أصاب هذه المعادلة في مقتل هذا العام، فانقطعت الشعرة يوم جرى إعفاء الوزير وليد الزيدي من مهامه - خريف هذا العام - بعد أن "تردّد" بين تنفيذ السياسات الحكومية بإيقاف كل نشاط فيه تجمّع بشري (بالتالي كل نشاط ثقافي) وبين الاستجابة لمطالب الفنانين بإيجاد صيغة مرنة لمواصلة العروض والتظاهرات. لحظة شهدت الكثير من الصخب خصوصاً مع إسناد مهام الثقافة إلى وزير السياحة، قبل أن يتضّح بأنه لا يوجد فارق كبير على أرض الواقع بين وجود وزير للثقافة في مكتبه أو العكس.

هل يمكن أن تظل الثقافة رهينة الدفع الرسمي إلى ما لا نهاية

اختلاط الأوراق هذا في حقيبة الثقافة قد يكون الصورة الأكثر دلالة في 2020، خصوصاً وأن الحصيلة على مستوى الإنتاج هزيلة إلى حد كبير في قطاعات كبرى مثل النشر والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، دون أن يمنع ذلك تسجيل نقاط مضيئة يمكن إرجاعها إلى حالة من انتظام إنتاج بعض الكتّاب والفنانين منذ سنوات، فقد أصدر شكري المبخوت رواية جديدة بعنوان "السيرة العطرة للزعيم"، وأصدر الصافي سعيد كتاب "جيوبولتيك الأمم"، وقدّم فتحي المسكيني ترجمة لكتاب "نظرية الفعل التواصلي" للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ونشر حكيم بن حمودة عملاً بعنوان "العقد الاجتماعي: الأسس والسياسات"، وواصل الهادي التمومي إصدار أجزاء من "موسوعة الربيع العربي في تونس"، ونشر حسنين بن عمو رواية تاريخية جديدة بعنوان "حجام سوق البلاط"، فيما قدّم غازي الزغباني مسرحيته "الهربة" في صيغة فيلم سينمائي، في حين تعطّلت مسرحية "مارتير" لـ فاضل الجعايبي أياماً قبل سلسلة عروضها الأولى بسبب الموجة الثانية من الفيروس في تشرين الأول/أكتوبر.

في نهاية السنة، جرى تنظيم "أيام قرطاج السينمائية" والتي بدت نوعاً من التحدّي الشكليّ لتوقف الحياة الثقافية حيث إن الأجواء الثقيلة التي فرضها الوباء تمنع من أن تُقدّم التظاهرة تلك الحركية التي تسري في شوارع العاصمة عادة، وإن استفادت من تعطّش الجمهور لأي طبق فنّي بعد سنة عجفاء.

في المقابل، ألغيت "أيام قرطاج المسرحية" بشكل مبكّر ولم يظهر الكثير من التأسّف عليها لدى المسرحيين ربّما لتذبذب خياراتها الفنية والتنظيمية في السنوات الأخيرة. ومن الجدير الانتباه إلى أمر طريف حدث في 2020 على مستوى المسرح، وهو أنه في مقابل تقلّص العروض في تونس العاصمة التي كانت تكاد تحتكر الحياة المسرحية والمتابعة النقدية والجماهيرية، فإن تظاهرات مسرحية كثيرة انتظمت هذا العام في مدن أخرى مثل المهدية والكاف وتطاوين وعرفت هذه التظاهرات بعض الإشعاع الذي لم يتح لها في السابق.

"معرض تونس الدولي للكتاب" هو حدث ثقافي آخر عادة ما يكون الحرص على تنظيمه أكثر أولوية من محتواه. هذا العام، بقي أمر المعرض مُعلّقاً وهو ما يشير إلى اعتماد عدم الوضوح كشكل من أشكال إدارة الأمور، فإذا كان موعده الأصلي (نيسان/ أبريل) قد صادف دخول العالم في نفق الوباء، فقد جرى تأجيله أوّلاً إلى تشرين الثاني/ نوفمبر وجرى الحديث عن إقامة نسخة محلية، ثم جرى الإعلان عن تأجيل دورة 2020 إلى ربيع 2021، وهو ما يعني إلغاء دورة 2020. ربما لم يكن المنظمون يريدون رفع الراية البيضاء أمام الفيروس، ولو بشكل رمزي، ومن حولهم أصداء من استغاثات الناشرين ملأت الأجواء حول المصير المأساوي للكتب، وإن كانت حصيلة النشر في هذا العام، على المستوى الكمّي، غير بعيدة عما يصدر في تونس في الأعوام الماضية.

لعل الصورة الأكثر تعبيراً في 2020 بقاء الثقافة دون وزير

هكذا مرّت سنةٌ على الثقافة التونسية حَكمَها "كوفيد التاسع عشر" بكثير من الصرامة، فكأنه نخل المشهد بغربال دقيق، فلم يبق في حصاد العام إلا قلة من المواظبين على الإنتاج الفنّي والفكري منذ سنوات، وأبان عن أكثر من خلل في قطاعات الثقافة المتنوّعة مما قد يكون فاتحة لمتغيّرات كثيرة لا يفتح الطريق إليها غير الانخراط الجدّي والجماعي في التفكير في مستقبل الشأن الثقافي التونسي. فهل من الممكن أن تظّل القطاعات الثقافية جميعها رهينة الدفع الرسمي إلى ما لا نهاية، فإذا ترنّحت الدولة - وهي تترنّح منذ سنوات - يتوقّف كل شيء. الغريب أن الجميع يتحدّث نفس الخطاب: لا لإيقاف الحياة الثقافية تحت أي سبب كان، ولكن لا أحد يفكّر في ضمانات استمرار اشتغالها.

المساهمون