ماذا يمكنُ لثنائية الثقافة والتلفاز أن تقول؟ تَكرَّر طرحُ السؤال السابق في العقد الأخير من القرن العشرين، عندما فرض التلفاز نفسهُ سيّداً على المساحات المنزلية، مُتقدّماً بخفّته وصُوَره وألوانه على وسائل إعلام أُخرى، سواء كانت مسموعة كالراديو، أو مرئية كالسينما، أو مقروءة كالصحيفة. لكنْ، هل يستبطنُ السؤال تناقضاً حقاً، على ما ذهب إليه مثقّفون شكّاكون بطبعهم؟ أم أن هناك علاقة سلبية بين العُجالة الآنية، التي تقوم عليها وسائل الإعلام عموماً، وبين الفكر والثقافة، بحسب ما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 - 2002)، في سجالاته حول التلفزيون وثقافة الصورة؟ وهل يمكنُ الوصول من خلال وسيلة إعلام، ذات جماهيرية واسعة، إلى طرح مواضيع جادّة، عادة ما تتصدّى لها الثقافة الموصوفة بالنخبوية؟
مع دخول العُشرية الأولى من الألفية الجديدة، بدأت تتكشّف أجوبةٌ عديدة على الإشكاليات السابقة؛ أجوبة تتعلّق بالأداء والتوجّه والهمّ الرسالي أو/ والترفيهي الذي تحمله القناة التلفزيونية. بمعنى آخر، تبيّن أن تلك الشكوك في مكانها، ولكنّها مشروطة بالقناة بوصفها مشروعاً فكرياً بالضرورة، مهما كان مضمونها، لا بالجهاز (التلفاز) كأداة اتصال. وفي ذروة عصر الصورة المتلفزة، اتّضح أنّ الثقافة بإمكانها أن تُقولَب ضمنها، وأن نوعاً من عقد ثِقة ضمنيّ يُمكنُ له أن ينتظمَ بين المتلقّي والقناة التلفزيونية.
لكن سرعان ما انقلبت الأمور مع الوصول إلى العُشرية الثانية من الألفية الجديدة، حيث زعزعت وسائل التواصل الاجتماعي تلك السيادة المتلفزة، وأعادت طَرْح الأسئلة من جديد، وبطريقة أشدّ تركيباً، بالمعنيَيْن الموضوعي والتقني للكلمة. وهذا ما انعكس بطبيعة الحال على الثنائية التي انطلقنا منها، إذ باتت محفوفة بمنافِسِين كُثر، حيث لم نعد أمام مُرسِلٍ ورسالة ومُرسَلٍ إليه، بل أمام فيض من "التفاعُلات". أمّا عقد الثقة اللامرئي، فلم يظلَّ على حاله، بعد أن فرضت "السوشال ميديا" بنودَها المُراوِغة من خلال أدوات تمايُزها التقنية، واقتصاد نقراتها.
عودة إلى زمن الثقة بالتلفاز بعيداً عن الاستهلاك والترفيه
على هذا الإيقاع المتسارع إعلامياً وتقنياً، إضافة إلى ما شهدته الساحة العربية خلال عَقدٍ من الثورات والانتفاضات، بدأت مطلع عام 2011 وما زال بعضُها مستمرّاً إلى اليوم، بات الحديث عن مشروع تلفزيوني أشبهَ بالمغامرة. هل نؤسّس تلفزيوناً بالفهم التقليدي، بحيث يبقى كلّ شيء على حاله؟ والنتيجة المنتظَرة لهذا القول هي أن تُترك الساحة لـ"صانعي المُحتوى" و"اليوتيوبرز"، ولا يلبث مشروعُك أن تُسدّ المنافذ بوجهه. أم يُستفاد من جملة التطوّرات (أمرٌ ليس من البدائه، وتحقيقه يتطلّب الكثير من المثابرة) ليُصارَ إلى شاشة عربية، يُمكنُ أن تعيد للمشاهِد العربي حقوقه في عقد الثقة ذلك؟ هذا ما أُنجز مع مشروع "التلفزيون العربي"، الذي انطلقَ في مثل هذا اليوم من عام 2015. وهو، أيضاً، ذكرى انطلاقة ثورة يناير في مصر قبل ذلك التاريخ بأربعة أعوام.
في الكلامِ أعلاه عموميةٌ لا بدّ منها، للتوطئة لحديثٍ تالٍ سأمزج فيه بين الخاص والعام. فالمُتابِع لـ"العربي" طيلة السنوات الثماني الماضية يعود، بمقدارٍ ما، إلى الحالة "البيتوتية" (نسبةً إلى البيت)، التي سادت في التسعينيات ومطلع الألفية: برامجُ رصينة ضمن إطار رِسالي وتنوّع معرفيّ واضح، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، جودةٌ في الصورة، وألوان تُريح العين، وهوية بصرية تؤطّرُ السمتَ الهادئ، الذي لا يفرض "ذوقه"، بل يُلبّي بهدوئه المتطلّبات والحساسيات الجمالية، التي تعضدُ وتستكمل المضمون الرصين، لترفعَ بثقة القناة الرديفة "العربي 2"، والتي انطلقت قبل عام، شعار "ألوان الحياة".
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى هذه المسألة الجمالية وحساسيتها، فغالبية وسائل الإعلام تُسرع لتبنّي شعارات حول مسائل كالمواقف والآراء، كون الأخيرة مسألة حسّاسة عند الجميع حتى قيلَ إنّ الشجاعة دونها. لكنْ، هناك تناسٍ لفكرة أنّ الشجاعة لا تُتَرجَم في المشاريع الإعلامية من خلال الجُرأة وحسب، بل والجُهوزية اللوجستية أيضاً. فالبُنية التحتية المُهلهلة تفرضُ نزَقاً على المضمون وتنعكس وصايةً على الجمهور، وهذا ما نجح "العربي" في تلافيه وعدم الوقوع به، مؤسِّساً لمعادلة تتكامل فيها الشروط الجمالية والمهنية.
ولمّا كان الحديث في سياق ثقافي، فالأمر لا يحتاج طولَ تفكّر حتى نقول إن برامج مثل "عصير الكتب"، و"طرب"، و"الرحلة"، و"مشوار ستّي" التي وقّعها كُتّاب وفنّانون مثل الكاتب المصري بلال فضل (1974)، والمؤلّف والملحّن الموسيقي اللبناني مروان خوري (1968)، وصانع الأفلام الوثائقية المصري أسعد طه (1956)، والمغنّية الفلسطينية دلال أبو آمنة (1983). ولا يفوتنا هنا أن نذكُر الطبيب والصحافي محمد أبو الغيط، الذي رحل عن عالمنا نهاية العام الماضي (1988 - 2022)، والذي كانت له بصمته كمعدّ برامج في "التلفزيون العربي".
على توقيت القدس المحتلة اختار أن يضبط خطابه وميقاته
أعادت هذه البرامج عَقْد الثقة إلى المُشاهِد العربي، وبصّرَته بجوانب لطالما حُيّدت عن ناظِرَيه، بعد أن استكان الكثير من شبكات التلفزة العربية لخطاب "الترفيه"، الذي لم يكن سوى تواطُؤ مع أشدّ جوانب "السوشال ميديا" تخريباً وتسليعاً، وهو ترفيه يفتقد للبراءة والأولوية، إذ تزامن مع وقت الثورة والتغيير الذي ظلّ الدافع الأوّل لـ"التلفزيون العربي". أمّا الوجهة والقصد والتوقيت في كلّ خطوة، فلم تُنظّم إلا على ميقات واحد، ميقات القدس المحتلّة عاصمةً أبدية للشعب الفلسطيني في مقاومته اليومية لآلة القتل الاستعمارية الإسرائيلية، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى التغطيات التي يقدّمها التلفزيون من الداخل المُحتلّ، وخطابه على الصعيدين العربي والدولي الرافض للتطبيع مع الاحتلال العنصري.
شهد التلفزيون مؤخّراً حدثين في مسيرته، إذ انتقل من مقرّه القديم في لندن، ليبدأ منذ الثامنة من مساء الثلاثاء 30 آب/ أغسطس 2022 بثّه من لوسيل، المدينة التي تقع شمال الدوحة، وحمل هذا الانتقال عنوان "العربي على أرضٍ عربية"، مترافقاً مع استعدادات قطر لاستضافة كأس العالم 2022. أمّا الحدث الأسبق، فيتمثّل بإطلاق شاشة رديفة بعنوان "العربي 2"، قبل عامٍ تقريباً، واللافت أن القناة، وفي غمرة كلّ البهرجات الترفيهية، آثَرت أن تنطلق وتكون على الهواء من خلال برنامج ثقافي، حيثُ بُثّت الحلقة الأولى من برنامج "ضفاف" الذي وقّعه بإطلالة مميّزة الإعلاميان: الفلسطينية آلاء كراجة والجزائري خالد بن أحمد خلفاوي، عند السادسة مساءَ الثاني من كانون الثاني/ يناير 2022. وفي هذا إجابة رصينة، لا عن السؤال الذي بدأنا به هذه المقالة، بل وعن أبعاده المُركّبة من التحدّيات التي أضافها تغيّر الزمن السريع، و"العربي" في ذلك يراهن على أنّه ما زال للثقافة القول الفصل والافتتاحي.
وبعد عام على تجربة "العربي 2"، تبيّن أن حصة الثقافة وبرامجها وافرة على الشاشة. يستوقفنا هنا البرنامج الحواري الذي تقدمه الإعلامية الفلسطينية آلاء كراجة "متون وهوامش"، والذي بُثّت الحلقة الأولى منه في تاريخ الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي. تقوم فكرة البرنامج على استضافة ثلاثة ضيوف في كلّ حلقة "لمناقشة قضايا ومفاهيم ثقافية من مختلف المشارب، حيث يطرح ضيوف البرنامج آراءهم وتوجّهاتهم الفكرية والإبداعية، ويناقشون أبرز الإشكاليات المطروحة في بيئتهم المحلّية والعربية وانعكاسها على ازدهار مجالاتهم الثقافية وانتشارها".
خطاب ضد صفقات المُطبّعين مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي
هكذا يُعرّف البرنامج عن نفسه، ولو تتبّعنا عناوين الحلقات التسع عشْرة منه، لتبيّن لنا أن البرنامج يُعيد فتح ملفّات إشكالية، لا بالمعنى الثقافي النخبوي أو المتعالي، بل بالمعنى الإجرائي قبل أي شيء، أي أنّ الاختصاصات تتقاطع فيه، الأمر الذي يُعطي للمقولة الثقافية بُعدها في حياة الناس. ونُلاحظ ذلك منذ الحلقة الأولى التي عالجت مسألة تدريس الفلسفة بين الضرورة والخيار، من خلال ضيوف أكاديميين نوعيّين ومختصّين، كاللبنانية إليزابث كساب، والمغربي رشيد بوطيب، والأردني عامر شطارة.
ونبقى مع البُعد الإجرائي وحلقة أُخرى بُثّت بالتزامن مع "اليوم العالمي للغة العربية" (18 كانون الأول/ ديسمبر)، وحملت عنوان "تدريس الأدب العربي في الجامعات"، شدّني العنوان وأعادني إلى ذكريات خاصة، عندما اخترتُ أن أدرس العربية في الجامعة، خياراً حرّاً غير مشروط إلا بالحب والرغبة، فقامت القيامة من حولي، وأظنّ بعضها لم يقعد إلى اليوم. كما أعادني، وبلا تكلُّف، حوار الضيوف الباحثِين: خالد الجبر ومحمود العشيري وأدي ولد أدب، إلى قناعاتٍ كنتُ قد خضتها قبل سنوات.
وتتتابع حلقات وموضوعات البرنامج مثل: "الرواية: انتعاش أم استسهال"، و"الشعر الحديث: هل انتهى عصر الشعر؟"، و"نوبل: أسباب غياب العرب"، ولو أنّ البرنامج قد بدا غير موفّق دائماً في اختيار المواضيع التي يبدو بعضها مطروقاً، وهذا يحدث في الإعلام ولأسباب مفهومة، ولو أننا كمشاهدين متطلّبين، نرغب بمتابعة إدارة للنقد وليس فقط للحوار خلال البرنامج، وهذا ما يمكن أن يقدّمه ضيوف جدّيون ذوو أفكار منتجة، وليس بالضرورة أن يكونوا فقط "معروفين ومشهورين".
برنامجٌ آخر انطلق في برمجة أيلول/ سبتمبر الماضي، وعنوانُه "لها الكلمة" توقّعه الإعلامية التونسية ليلى الشايب، وهو "برنامج حواري يلقي الضوء على أنماط حياة نساء عربيات برزن في مجالات عدّة، وتبوّأن مناصب إدارية أو رسمية رفيعة، نتيجة جهدهنّ الدؤوب، ومهاراتهنّ المميزة".
أطلق التلفزيون مؤخراً برمجة الخريف بحصة وافرة للثقافة
أكتبُ هذه السطور الآن وعيني على ضيفته الروائية والمعمارية الفلسطينية سعاد العامري (1951)، وهي تسرد حكاية وصولها في مطلع السبعينيات إلى "الجامعة الأميركية في بيروت"، وكيف عادت إلى فلسطين، بعد تطواف في أهم أكاديميات العواصم الغربية لتؤسّس مركز "رِواق" للعمارة الشعبية. ومثل العامري ضيفاتٌ أُخريات يحرص البرنامج أن يُعرّف بهنّ، كالطبيبة اللبنانية تمارا الزين، والطبيبة الأردنية لبنى تهتموني، والعالمة المتخصّصة في مجال فيروسات النباتات السورية صفاء القمري، والقانونية النسوية اليمنية ليزا البدوي، وأُخريات يضيق المجال على ذكرِهنّ كلّهن.
أمّا ما قبل برمجة الخريف الأخيرة، فلا بدّ من الوقوف عند برنامجين عُرضا على شاشة "العربي" الرئيسية، ثم انتقلا ليكونا من الباقة التي تقدّمها "العربي 2"، وهما: "ضفاف"، الذي تمّ الافتتاح به كما أسلفنا الذكر، وهو "يسلّط الضوء على الفنانين والأنشطة الثقافية في مختلف أرجاء الوطن العربي بشكل خاص، وكذلك الأحداث الثقافية العالمية، من خلال فقرات تُعنى بالفنون والثقافة والتراث"، ويُعرَض من الأحد إلى الخميس عند السادسة مساء بتوقيت القدس المحتلّة. وتمتدّ تغطيات البرنامج إلى حقول فنّية مختلفة، فمن آخر الأفلام والعروض الأدائية والمسرحية، إلى الإنتاجات الروائية والأعمال التلفزيونية والموسيقية، بما يشمل التنوّع الذي يمتاز به العالم العربي، وكذلك الدول التي تُقيم على أرضها جاليات عربية كبيرة.
أمّا البرنامج الثاني، فهو الذي يُعيدنا صاحبُه، وبكلّ حِرَفية، إلى ثراء "الكشكول"، إنما بطبعة معاصرة فريدة، ونحن نتكلّم هنا عن "سيداتي سادتي"، البرنامج الذي يقدّمه الإعلامي الفلسطيني عارف حجاوي، كلّ إثنين عند التاسعة مساء بتوقيت القدس، و"بعربية ناصعة يقدّم قراءة معمّقة وحرّة لأخبار وصحف الأسبوع، ويعرض على محكمة التاريخ زعماءَ وحقباً، لنرحل مع حجاوي بسياحة حرّة في تجاربه وقراءاته وخرائطه". وبفضل تعدُّد اهتماماته، يمتاز البرنامج بقدرته على مخاطبة أجيال مختلفة، كما أننا أمام رجلٍ يُقلّب المفردات على لسانه ويولّدها، فتخال أنّ العربية قد غدت معه درساً في تحصيل السرور، إنْ سمعتَها بأذن العامية ترتقي بك بفصيحها، وإنْ سمعتَها بأذن الفصحى تفاجئك بمستويات تحسبها من العامية، وما هي بذلك.
رغم خشية الثقافة والمثقّفين وحذرهم من طغيان الصورة وإيقاع الآنية السريع الذي يشكّل صلب العمل التلفزيوني، إلّا أن "التلفزيون العربي" استطاع أن يقدّم مثالاً نموذجياً على قدرة وسيلة إعلام جماهيرية في تأدية دور التثقيف العام، دون الهبوط بالذائقة أو بالمحتوى الإعلامي وتسطيحه بهدف التزاحم على أعداد المشاهدين. هدفٌ ما كان ليصلَ المشروع إليه لولا اعتماده على جيل من الشباب، كانوا أساساً للتغيير العربي، وآخرين هم قيد الإيمان به وبحتميّته.