الترجمة أدباً صغيراً

04 ديسمبر 2021
جاذبية سري/ مصر
+ الخط -

ينصرف ذِهن العربي مُباشرةً، عند الحديث عن الأدب الصغير إلى ابن المقفَّع، صاحب "الأدب الكبير والأدب الصغير"، والذي تَرجم "كليلة ودمنة" من الفارسية إلى العربية؛ وقد ينصرف ذهن العربي المهتمّ بالفكر والنقد الغربيّيْن إلى الفيلسوفيْن الفرنسيّيْن جيل دولوز وفِليكس غاتاري، اللذين عالجا في كتاب لهما شهير هو "من أجل أدب صغير" مفهوم الأدب الصغير أيضاً.

اهتمّ ابن المقفّع، في كتابه، بمخاطبة السلطان وأعوانه في الشقّ الأول من كتابه، أي "الأدب الكبير"، بينما خاطب عامّة الشعب بإسداء النصح إليهم في الشق الثاني، أي "الأدب الصغير"، في ضوء فهم معيَّن للأدب يرتبط بالأخلاق والتأدُّب، قبل أن يكتسب المعنى الذي أضفاه الرومانسيّون عليه.

أمّا دولوز وغاتاري، فإنّ "الأدب الصغير" لديهما يعني أدباً تُبدِعه أقليّةٌ هامشية داخَلَ لغةٍ كُبرى، تكون لها لغتها الخاصّة وثقافتها المُميِّزة، وقد كانت حال الكاتب التشيكي فرانز كافكا مثالَها الصارخ، لكونه اليهودي ذا اللسان اليَدِيشِي، الذي كانت اليديشية لغتَه العامية، وألمانية التشيك كانت الحاملَ والتواصُلية، ولغتَه الإحالية في الكتابة هي لغة الألماني غُوتِه، في حين مثَّلت العبرية لغتَه الأسطورية.

ولا غرو أنّ حال محمد شكري المَغربيّ الريفيّ شبيهةٌ بكافكا، ذلك أنّ لغتَه العامية الأصلية هي الأمازيغيةُ، ولغتَه الحامل والتواصُلية هي الدارجة المغربية، ولغتَه الإحالية في الكتابة هي عربية الكاتب والشاعر المرموق محمد الصباغ، بينما لغته الأسطورية هي العربية الأثيلة.

إنّ الشيّق في موقعها في الهامش هو انطلاقُها منه باستمرار

لكنْ ما المُسوِّغ الذي يُبيح لنا الذهابَ إلى أن الترجمة "أدبٌ صغير"، بينما التعريف الأخير يقرنُ هذا الأدب بالكتابة تحديداً، وبِشرط صدورها عن ممثّلٍ لأقلية هامشية، وهل في الإقرار بأنّها "أدبٌ صغير" ما يُسلِّم في وقتنا الحاضر بوجود أدب كبير؟ وأين يُمكننا العثور على هذا الأدب الكبير؟

لنُذكِّر بأن الترجمة في تعريفها الحديث هي "إعادة كتابة"، فهي إبداع ثانٍ، لا يقل شأناً عمَّا يُعرَف بـ"الأصل"؛ وأنّها تَبعاً لذلك تتحرَّك في فضاء الكتابة، فهي وَفق هذا الاعتبار "جنس أدبي على حِدة". ولعل الدَّليل هو التقاؤها مع الأجناس الأدبية في كلّ انشغالاتها وقضاياها، وأنّها تَصْدُر في ذات الوقت عن مبدأ "المغادرة الموطنية"، لعدم استقرارها على حال واحدة، وأنها تحيا مُحفَّزةً بالرغبة في حلحلة المتواضَع عليه، وفي "تهريب الغريب" إلى ثقافتها لتزويدها بالمختلف، لتَقِيَها من الثَّباتِ على حال واحدة؛ وفي "الفرار" باستمرار من القيود اللغوية والفكرية مهما كان نوعها، لأجل عَقْد صِلات وارتباطات مع ثقافات غريبة، وأنّ هاجسَها هو مواصَلة اختراق الحدود المكانية والزمانية، بل إنّها بوِفادَتها للغريب تُقدِّم إلى اللغات المنقول إليها مُقترَحات أسلوبية وجمالية وفكرية وأخلاقية متنوّعة تعمل على ضخِّها بدماء جديدة.

ويتهيّأ لي أنّ المُشكل الذي تعانيه الترجمة الأدبية بالأساس هو استمرارُ النظرِ التقليدي إليها بصفتها نُسخةً لما يُعرَف بـ"الأصل"، وأنها في محاولتها تحويلَ الأخير تقترف تشويهه، بل وخيانته لعدم تأديتها الأمانة، حسب الجاحظ، عِوض أنْ يُنْظَر إليها بصفتها كتابة مستقلَّة بذاتها، وإلى كونِها فاعلاً أساسياً في تطوير الأدب العالمي.

الحقيقة أنَّ الترجمة ليستْ "أدباً صغيراً" بالمعنى القدْحي، وأنَّ الخطأ الجسيمَ هو تصورُّها عديمةَ التأثير في مجالها، بِحكم أنها تُقيم على هامش الأدب. إنّ الشيّق في موقعها في الهامش هو انطلاقُها منه باستمرار، وتحرُّكُها دوماً في اتجاه المركَز لإزاحة المكرَّس، ولتقديم تجارب مختلفة ذوْقاً ورؤيةً وفنِّية، لأنّ طموحَها يتَخطّى نقلَ النص إلى نقل ثقافة بكاملها.

هكذا تزحف الترجمة على "الأدب الكبير"، أي الأدب السائد بتقاليده وأعرافه، وتُلاقِحُه في حال عدم إزاحته، فيتخلَّق في الثقافة المُستقبلة أدبٌ جديد يشرع في فرض حضوره، بينما يكون "أدبٌ صغيرٌ" آخَرُ، ترعاه الترجمة مرَّةً أُخرى، قَيْدَ التَّشَكُّل في هامشٍ صاعد.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون