إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين مُعمَّدة بدم أبنائها.
يتلخّص ما يُمكن أن تقدّمه الثقافة العربية في أمرين؛ الأول: التخلّص الكامل من رواسب الاستعمار والمنظورات الاستعمارية عبر بناء فكر - ممارسة تحرريّة في مواجهته؛ جزء من جريمة المثقّفين أنهم آمنوا بـ"الحداثة"، وصدّقوا أكاذيب أوروبا الاستعماريّة البيضاء، وشرعتها "الإنسانية"، وخطابها عن "الديمقراطية". هذه الأمور جزء من عنصريّتها، تنطبق عليهم حصراً، لا على "الآخرين الهمَج"، نحن: "الحيوانات البشريّة". تجاهَلنا ماضيها الإجرامي، وحاضرها الإجرامي، وصدّقنا كلامها. "المجتمع الدولي" هو فكرة استعمارية معناها المجتمع الأوروبي الأبيض، والقانون الدولي هو قانون المستعمر الأوروبي الأبيض المُصاغ لصالحه، والمطبّق انتقائيّاً لتحقيق مصالحه. "المجتمع الدولي" هو ما نريد أن نتحرّر منه، لا أن نستنجد به.
لسنا بحاجة لإثبات إنسانيّتنا للمستعمِر الأوروبي. هو صاحب التاريخ الدموي في الأميركيتين وأفريقيا ومنطقتنا وآسيا، هو صاحب محاكم التفتيش والهولوكوست والقنابل النووية، هو والد العنصرية المُعادي للساميّة الممسوس برُهاب الإسلام، هو داعم إبادة غزّة، هو الذي عليه أن يثبت بشريته وإنسانيته لنا. "العالم المتحضر" هو خرافة يروّجها الأوروبي الهمجي القاتل المستعمِر عن نفسه ليُحَيْوِن المستعمَرين "الهمج"، ويبرّر استعمارهم واستغلالهم واستعبادهم وإبادتهم. حان وقت التخلّص بالكامل من رواسب الدعاية العنصرية الاستعمارية الأوروبية البيضاء التي نكرّرها ونثبّتها وندين أنفسنا بها دون وعي.
اجتثّت السلطات العربية النقد من قائمة مهمّات المثقّف
المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين ليس فلتة من فلتات الزمان، بل جزء من غزوة أوروبا البيضاء على العالم غير الأوروبي؛ استمرار لاستعمار الأميركتين وأستراليا وتطهيرها من شعوبها الأصلية، استمرار لجرائمهم في أفريقيا ومنطقتنا وآسيا، لاستعباد الشعوب، ونهب الثروات، والتقسيم. أوروبا وأميركا لا تتضامنان مع وتدعمان الاستعمار الاستيطاني في فلسطين من فراغ. أوروبا وأميركا هما الانطلاقة الأولى، والماضي القريب، والتأصيل الجذري، لما يمثله الاستعمار الاستيطاني، ولقيمه الإجرامية. وهم جميعاً امتدادٌ تاريخي لبعضهم، ولمنطق الاستعمار وعنصريته. معايير مزدوجة؟ تعاطف؟ المستوطنة الأوروبية الصهيونية هنا هي امتداد لتاريخ المستعمرين الأوروبيين الهمجي وإجرامهم وإباداتهم الكبرى، وهي امتداد لتاريخهم التدخّلي اللاحق: النابالم على فيتنام، والصواريخ على ملجأ العامرية، والنووي على هيروشيما وناغازاكي. هذا هو المعيار المُطبّق علينا ولا ازدواجيّة فيه.
حان وقت الاستيقاظ. لا يوجد "تقريب لوجهات النظر" مع الاستعمار الاستيطاني. لا توجد "تسوية" مع الاستعمار الاستيطاني. لا يوجد "بناء جسور" و"إيجاد حلول" مع الاستعمار الاستيطاني. لا يوجد "حيادية" مع الاستعمار الاستيطاني. أنت إمّا مع العدالة أو مع الظلم. الاستعمار الاستيطاني هو جريمة الحرب الأولى، هو العنف الأول المؤسّس، هو بداية العنصرية والقتل والتدمير والتطهير العرقي والتهجير. الاستعمار الاستيطاني هو التمثّل المادي الأول والنهائي للظلم والعنف، وعنف المظلوم التالي لعنف الظالم لا يحتاج إلى تبرير أو تسويغ أو تردّد. هل "يتساوى" العنف عند "الطرفين"؟ قطعاً لا، عنف المستعمِر المستوطن هو عنف القتل والإحلال، عنف أوّل، ومؤسّس، وظالم، وعنف المستعمَر هو عنف الحياة والبقاء، عنف رادّ، وضروريّ، وعادل. فليصمت ذاك الذي يتحدّث عن "التوازن" و"المساواة بين الطرفين". دورنا الثقافي - الفكريّ - الإبداعي، اليوم، هو أن نُعيد قراءة علاقتنا مع الاستعمار والتجربة الاستعماريّة بالكامل، ونقدّم مقاربة تحرريّة منها.
المستوطنة الصهيونية امتداد لتاريخ المستعمِر الهمجي
الثاني: هو الموقف من السلطات الحاكمة في المنطقة العربية، وأغلبها متواطئ، لا بل شريك، في تمويل اقتصاد الحرب الصهيوني، وتمويل العدوان على غزة، وإسناد المشروع الاستعماري الاستيطاني. خذ مثلًا حكومة بلدي، الأردن، إذ تموّل المستعمِر الصهيوني وجرائمه بعشرة مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأردنيّين غصباً عنهم عبر اتفاقية لاستيراد الغاز. مصر لديها اتفاقية مُماثلة بخمسة عشر مليار دولار، دول عربيّة أُخرى تساهم في اقتصاد الصهاينة أو وقّعت اتفاقيات أمنيّة وعسكريّة معهم. هؤلاء جزء من الجريمة، وأكثرية الكتّاب العرب، اللاهثين بسفالة خلف الجوائز المالية والبهرجات الإعلامية والاعتراف والشهرة، صاروا شهود زور على سلطات يفترض أن يفضحوها ويواجهوها.
نجحت السلطات العربية في اجتثاث "النقد" من قائمة مهمّات وأدوات المثقّف، وبالتالي، حان الوقت اليوم لفضح هؤلاء المثقفين، عبيد المال والشهرة والاعتراف، هؤلاء جزء من كارثة الانحطاط الفكري - الثقافي الذي نعيش، وفضح السلطات المتواطئة. اليوم نحن بحاجة لما أسمّيه: "المُفكّر الممارس"، المنخرط مع مجتمعه في إنتاج التغيير باعتباره فعلاً - فكراً إبداعيّاً مستمرّاً، يُعيد موضعة الفكر داخل ديناميكيّة الحركة والتاريخ اللذين لا يتوقّفان. المُفكّر الممارس هو مفكّر مجتمعيّ، جماعيّ، تاريخيّ - ماديّ (يشتبك مع الواقع ويريد تغييره)، موضوعيّ (ينطلق من المصلحة الاجتماعيّة والواقع)، تثويريّ، تحريضيّ، يستدعي شكلاً جدليّاً، نقديّاً، تخليقيّاً للمعرفة، هي حصيلة عمل ذهنيّ في الأفكار وفعليّ في الواقع،ِ أفكاره صيرورةٌ متحرّكةٌ تشتبك مع الواقع، فهو يفعل في الواقع إذ يفكّر فيه، ويفعل الواقع في أفكاره إذ يشتبك معه، نقديٌّ دائماً، يُسائل القبول العامّ، يتحرّك بلا قيود، السّلطة عقبةٌ في طريق مشروعه، يشتبك مع السّلطة وينقدها، يهتمّ بفتح المساحات العامّة، ويريد تحقيق تغييرٍ فوقيّ (في السلطة) انطلاقاً من ثورةٍ تحتيّة. هذا ما قد يحقّق لنا نقلة ثقافية استراتيجية تحرريّة في المستقبل.
* كاتب من الأردن
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الثالث من الملفّ: اضغط هنا