نظّم "استديو أشغال عامة" في بيروت بالتعاون مع "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى"، مساء الأربعاء الماضي، الندوة السابعة من سلسلة "حوار، مدينة وناس"، التي تتناول مفاهيم المدينة والعدالة المكانية والعمران، حيث اشترك كلّ من الباحثة ريان علاء الدين، ووزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، وأستاذ علم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، ساري حنفي، في تقديم مُداخلات حول "الإبادة البيئية في فلسطين وجنوبي لبنان".
انطلقت الندوة، التي أُقيمت في مبنى "جريدة السفير"، وأدارها سيرج حرفوش، من مداخلة الباحثة في مجال التخطيط الحضري ريان علاء الدين، التي بيّنت خريطة الانتهاكات والاعتداءات الصهيونية على الأراضي اللبنانية منذ بدء العدوان الأخير، قبل أكثر من شهرين، وأكدت أنه إلى تاريخ انعقاد الندوة، لم يُكن لبنان بمنأىً عن الاعتداءات الإسرائيلية، إذ لم تتوقّف الغارات ولا القصف المدفعي، بل توسّعت رقعتها لتشمل بلدات الجنوب بالتوازي مع العدوان الأساسي على قطاع غزّة.
بيوت وأراضٍ زراعية لبنانية وفلسطينية قُصفت بالفوسفور الأبيض
وعرضت علاء الدين خريطة الاعتداءات، التي تُوضّح أشكال القصف ونوعية الأهداف، وعدد الشهداء المدنيّين، وهي واحدة من الخطوات التوثيقيّة التي اتّخذها الاستديو، وفقاً لعلاء الدين، عبر رصد يوميّ، وتم جمعُها من خلال المُعطيات المتوافرة على وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام المحلّي وغيرها، بحيث تُشكّل قاعدة بيانات تُحدِّد ما تتعرّض له كلّ منطقة من قصف، وما يطاول البيوت والمدارس والمزارعين، إلى جانب استهداف الجيش اللبناني وقوى الدفاع المدني.
فعلى سبيل المثال، تُوضّح الخريطة استهداف منطقة الناقورة بقذائف مدفعيّة لمدّة 43 يوماً، من أصل 70 يوماً، بينها 7 أيام كانت عُرضةً فيها للقصف بالفوسفور الأبيض. كما تُوضّح الخريطة أنّ عدد المناطق المُستهدفة قد وصل إلى 74 منطقة عقارية، تتوزّع على مُحافظَتي الجنوب والنبطية، حيث نُلاحظ ارتفاع نسبة الشهداء المدنيّين.
وتابعت الباحثة مداخلتها موضّحة أنّ ما يعمل عليه الجيش الإسرائيلي من خنق للسكّان، باستخدام الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً، والذي طاول 23 بلدة، يُثبت توصيف الإبادة البيئية. وهذا المصطلح يُمكن تعريفه بأنه تدمير واسع ومُتعمَّد للبيئة، ما يسبّب ضرراً طويل الأمد، ولا عودة عنه، ويتمثّل بتدمير النُّظم البيئية، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلويث الموارد الحيوية، والإخلال بالتوازن الدقيق للطبيعة، كما يمتدُّ ليشمل الوجود المادّي للشعب. وقد تم تداوله أوّل مرّة خلال حرب فيتنام مع تدمير الجيش الأميركي الغطاء النباتي والمحاصيل.
ونبّهت المُحاضِرة إلى أنّ الإبادة البيئية لا تُعتبر جريمة حرب، إلّا بمادّة واحدة من "نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية"، في حين يدعو الناشطون لجنة القانون التابعة لـ"الأمم المتحدة" لتعديل هذا النظام، ليشمل الإبادة البيئية كجريمة حرب واضحة. كذلك تناولت حال المزارعين الذين منعتهم الحرب من الوصول إلى أراضيهم، فأهالي بلدة رميش الحدودية مثلاً، لم يستطيعوا الوصول لأكثر من 15 ألف شجرة زيتون هذا الموسم، كما تظهر الخريطة استهداف المدارس الرسمية مثلما حدث في بلدتَي عيتا الشعب، وياطر. وختمت علاء الدين مداخلتها بخريطة أُخرى مُخصّصة لحركة النزوح الداخلي من بلدات لبنان الجنوبية، تُثبت أن أعداد النازحين زادت عن 64 ألف نازح.
بدوره أكّد أستاذ السياسات والتخطيط في "الجامعة الأميركية" ببيروت، ناصر ياسين، الذي حضر بصفته الرسمية كوزير للبيئة في حكومة تصريف الأعمال، أهمّية التوثيق بوصفه سلاحاً للمواجهة مع العدوّ، لأن ما يجري في الجنوب "حرب حقيقية، أدّت إلى نزوح أكثر من نصف سكان المناطق الحدودية مع فلسطين المحتلّة".
أكثر من 600 هكتار احترق في لبنان نتيجة قصف "إسرائيل"
ووضّح ياسين، من خلال مداخلته، "شكوى الجرائم البيئية التي قدّمها لبنان إلى مجلس الأمن"، أن هدف "إسرائيل" الأساسي هو تفريغ هذه المنطقة من السكّان، ونبّه إلى أن أكثر من 6 ملايين متر مربّع قد تم حرقُه، منذ بداية الحرب، حسب "المجلس الوطني للبحوث العِلمية"، أي 600 هكتار، أو ما يُعادل 90 بالمئة من المساحات المُحترِقة في كلّ الأراضي اللبنانية خلال موسم الحرائق الماضي، "شهرٌ واحد من الحرب عادَلَ موسماً من الحرائق"، في تقصُّد واضح من الكيان الصهيوني لقتل سبُل العيش.
وعن التعاطي الحكومي حيال هذا الوضع، تطرّق ياسين إلى الشكوى المباشرة لـ"مجلس الأمن"، وقد تم توثيق أدلّة هذه الشكوى من خلال الخرائط الجوّية، وفحص عيّنات من التربة، وكذلك أخْذ عيّناتٍ من السلاح المُستخدم، بالإضافة إلى تقارير من الجيش اللبناني، مؤكّداً الذهاب بهذه الشكوى إلى مجلس الأمن، أو الجمعية العامة، في حال "الفيتو". وأن الأمر لا يتوقّف عند الإدانة، بل يتجاوز ذلك إلى طلب تعويضات.
لكنّ الغريب، وفقاً للمُحاضِر، أنه في حالات سابقة تقدّم فيها لبنان بمثل هذه الشكاوى، كما في حادثة التسرُّب النفطي خلال حرب 2006، كانت بعض البلدان الديمقراطية، مثل كندا وغيرها، تصوّت ضدّ استيفاء لبنان تعويضاته، وبالتالي الأمر ليس سهلاً أبداً، مع أهمية الذهاب في الشكوى إلى آخرها.
الاستيطان يُصمّمه المهندسون وتحرسه آلة القتل العسكرية
أما أستاذ عِلم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، ساري حنفي، فرصد في مداخلته "الإبادة المكانية كآلية استيطانية للمشروع الصهيوني" الحالة القائمة في فلسطين، انطلاقاً من فكرة المشروع الصهيوني نفسه القائلة بـ"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ما يصنع منها استعماراً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، يعتمد على مُعادلة: أرض أكثر وسكان أقلّ. لكنّ الغريب، حسْبَ حنفي، أنّ السلطة الفلسطينية، أثناء خوضها "مفاوضات أوسلو"، لم تكن لتتوقّف ولو لمرّة حين كانت تستمرّ "إسرائيل" بالإعلان عن المستوطنات وقضم الأرض الفلسطينية!
وركّز صاحب "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة" (2021) في مداخلته على الواقع الاستيطاني خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، مُشيراً إلى أنّ المستوطنات العشوائية في العام الأخير فقط كان قد أُعلن أن 150 وحدة منها قد صارت شرعية، وأنّ "أوسلو" بقدر ما بدت تهدئة للأوضاع سياسياً، إلّا أن نتائجها من ناحية الاستيطان كارثية، نحن نتحدّث اليوم عن أكثر من 800 ألف مستوطن في الضفّة الغربية، أي أكبر بثماني مرّات من الرقم الذي كان عليه أول المفاوضات.
ونبّه حنفي إلى أن الإبادة المكانية كممارسة تشغل جوهر المشروع الصهيونية، من حيث أنها تُظهره - دعائياً وأمام الرأي العام العالمي - أنه "غير دموي"، ولكن مع ترافُقها اليوم مع ما نراه من مجارز وحشية مرتكبة في غزّة، بُرهانٌ على أننا انتقلنا من الإبادة المكانية إلى أُخرى جماعية. وهذه الأخير "كلمة مفتاحية مهمّة علينا استخدامها في كلّ أدبّياتنا"، بقدر ما علينا التأكيد أنّ كلّ الدول الواقفة ضدّ وقف إطلاق النار، هي مُشاركة بفعالية بعملية الإبادة الجماعية، كما أنّ الغرب، اليوم، مُستشرس في حربه على المفاهيم، وبالتالي نحن بحاجة لعملية "حفر مفاهيمي"، لاسترجاع وتوصيف ما يجري بدقّة.
وختم الباحث بأن من ينظُر إلى خريطة الضفّة الغربية يُدرك تماماً أنها باتت مُثقّبة كقطعة جبنة جرّاء التوحّش الاستيطاني الذي يُديره النظام العسكري الإسرائيلي بالتوازي مع مُخطِّطي المُدن والمستوطنين، والمُضاربين في القطاع العقاري، بهدف إلغاء مرئيّة الشعب الفلسطيني، ضمن مخطّط الإبادة المكانية الشامل، وحين نرى إطباق هذه الأدوات على كلّ مقوّمات الحياة، نُدرك أهمية المقاومة وما يجري اليوم في غزّة وكذلك الضفّة، من عمليات مقاومة من شأنها تخريب كلّ المخطّطات الاستعمارية المرسومة.