الأمُّ مترجِمةً

03 أكتوبر 2020
مارسيل بروست (يسار) وشقيقه روبير مع والدتهما، 1895
+ الخط -

السائد في عُرف الكتابة أنَّ الإبداع حال فرديّة، يُنسبُ فيها كل عمل كيفما كان نوعه إلى مؤلِّفه، لكنّ تاريخ الأدب يُقدِّم لنا أمثلة كثيرة لكُتّاب أتَمُّوا أعمالاً لآخرين، فأصبح المؤلَّف يُنسَب إلى اثنين أو أكثر، وقد حدث هذا لمُرِيدين مع شيوخهم بالخصوص، ويكون ذلك تكملة لمشروع كبير، كما وقع في الأندلس.

لكنْ من التجارب اللافتة في مجال الكتابة الأدبية وجود كُتُب ونصوص بعينها يشترك في تأليفها اثنان مثلاً، مثلما وقع حديثاً مع الأخويْن إِدْمُونْ (1822 - 1896) وجُول (1830 - 1870) غُونكور، اللذين تُنسبُ إليهما الجائزة الأدبية الفرنسية الرفيعة "غُونْكُور"، واللذيْن ألَّفَا كُتُباً مشترَكة كانا يُوقِّعانها باسم واحد هو جُولِإدْمُون. وفي فرنسا نفسها هناك تجربة الفيلسوفيْن جِيلْ دُولُوز وفِليكْس غاتَري، اللذين أصدرا عدداً لا بأس به من الكتب اشتركا في تأليفها. وعربيًّا يُمكن أن نستحضر رواية "عالم بلاخرائط"، العمل المُشترَك بين جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف.

وكما نعلم، فإن الترجمة ليست بمعزل عمّا يعتمل في حقل الأدب، لأن قضايا الأخير من قضاياها، ولذلك نعثر على كتُب كثيرة تُرجمتْ من قِبل اثنيْن أو أكثر، ومنها ما روُجِعتْ من قِبل خبير، والذي يُمكن عَدُّه شريكاً فيها.

ويُفاجئُنا مجالُ الترجمة، الذي يحبل بطرائف ونوادر، بحاليْن غريبتيْن، لكنهما دالَّتان، لأنهما ترتبطان بكاتبيْن من أشهر أعلام الأدب الكوني الحديث؛ هما الفرنسي مارْسيل بروسْت مؤلِّف "بحثاً عن الزمن الضائع"، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس مؤلِّف "الألف"، واللذان ترجما أكثر من عمل أدبي، لكن بالاشتراك مع أمّيهما، وهذا هو الطريف في الأمر، لنكتشف فيهما أنّ الأمّ التي هي النافذة الأولى على الحياة، والتي يحصل منها الطفل على الحماية والرعاية، ويتعلَّم منها أبجدية الوجود والحضور في العالَم، يُمكنُها أنْ تكون شريكة حقيقية لهذا الطفل الذي سيغدو مُبدِعاً في مشاريع حياته الأدبية، شأن العلاقة التي ربطتْ الكولومبي غارسيا ماركيز مع أمه لْوِيسَا سَانْتِياغا مَارْكِيز، التي اعترفَ هو نفسُه بدورها الحاسم في مَسيره الروائي؛ بإفادته من وقائع عاشها معها، ومن تصحيحاتها النحوية واللغوية لنصوصه قبل أنْ يُذيعَها في الناس، بل حتى في استلهام بعض حكاياتِها مواضيعَ تضمَّنتْها رواياتُه.

تتنازل الأمُّ بأريحية عن جهدها مُقابل أنْ يُنسَب إلى ابنها

اشتُهر بروست بكونه روائياً طبَّق ذكره الآفاق بسلسلته الروائية المُشار إليها أعلاه، ولكنّ الجانب الخفيَّ فيه، والذي لم يُنتبَه إليه نقديّاً هو أنه بدأ مَسيره في الكتابة مُجتَرِحاً الترجمة أساساً، وهناك بعض الدراسات والأبحاث التي تُنبِّه إلى إفادته من المغامرة الترجمية في الارتقاء بذوقه الأدبي وأسلوبه وتقنياته في الكتابة، في ترجمة عمليْن للكاتب والشاعر الإنكليزي جُون راسْكين (1900 - 1819)، فنقل إلى الفرنسية كتابَه "الكتاب المقدّس: نسخة أَمْيان" (1904) و"سمسم وزنابق" (1904).

اللافت في إنجاز بروست لهذه الترجمة هو اعتمادُه على المساعدة الكبيرة التي قدَّمتها له أُمُّه، التي كانت تتقن الإنكليزية كثيراً. يقول المفكّر والناقد جورج سْتاينر: "هنالك فصل رائع عند بروست: يُترجِم الشابُّ بروست للناقد الإنكليزي العظيم والفيلسوف الكبير للفن جُونْ راسْكين. سبع سنوات أُفرِدت للترجمة. يَعرف بروست القليل من الإنكليزية. وهكذا، في الليل، كانت أمُّه تنجز مُسوَّدة ترجمة أولى - كانتْ لغتُها الإنكليزية رفيعة - وكانت تُمرِّرها له تحت الباب. وماذا يقول لنا بروست؟ "الإنكليزية هي لغتي الأم". إنه درسٌ مهمّ جدّاً. أنا لا أؤمن باللغات الأم".

لقد أورد جورج ستاينر هذا مادِحاً التعدُّد اللغوي، ومُشيراً إلى والدته التي "كانت تبدأ جملةً في لغة، وتُنهيها في لغتيْن أُخريَيْن أو ثلاث" في معرض حديثها معه، ومعلناً عن تبنّيه لفكرة هيغل التي يذهب فيها إلى أنّ "الكائن ترجمةٌ خالصة".

وهناك حال ثانية يبرز فيها الدور الذي اضطلعت به الأم في الأخذ بيد ابنها، في مضمار الترجمة عبر مساعدته، والذي سيصير لاحقاً أحد أعلام الإبداع والترجمة الكونيَيْن، يتعلق الأمر بالسيّدة لِيُونُور أَسِڤِيدُو دِبُورْخِيس أمِّ خ. ل. بورخيس؛ أحد أبرز كُتَّاب العالَم في القرن العشرين.

يستحضر بورخيس أمَّه في سيرته الذاتية، فيقول عنها: "بعد وفاة أبي، وبما أنها كانت عاجزة عن التركيز على الصفحة المطبوعة، ولكي تُفلح في ذلك، ترجَمتْ الكوميديا البشرية لويليام سَارُويَان. لقد عثرتِ الترجمة على ناشر، وحظِيتْ هي مُقابل ذلك العمل على احتفاء من قِبل جمعية أرمينية في بوينوس آيْريس. وترجمتْ لاحِقاً بعض قصص هاوْثورن وأحد كُتب هِربرتْ عن الفن. وأنجزت بعض ترجمات لمِيلْڤِيل، وفرجينيا وولف وفولكنر التي تُنسَبُ إليَّ. بالنسبة إليَّ كانت دائماً رفيقةً لي - خصوصاً في الأعوام الأخيرة، لمّا أُصبتُ بالعمى - وصديقةً متفهِّمِة ومُتسامِحة. وكانت حتى وقت قريب جدّاً سكرتيرةً حقيقيّة لي: كانت تردُّ على رسائلي، وتقرأ لي، وتكتب ما أمليه عليها، وكذلك صاحَبَتني في كثير من أسفاري داخل البلد وخارجه. لقد كانت الإنسانة التي حفَّزتْني في مَسيري الأدبيّ في صمت وبنجاعة، ولو أني تأخَّرتُ في الانتباه إلى ذلك".

ويعود بورخيس إلى استدعاء أمّه في كتابه "في حوار"، الذي أجراه معه أُوسْغالدو فِرَّاري، ليؤكِّد على الدور الكبير لأمِّه في حياته الأدبية، وفي مجال الترجمة على الخصوص.

"- لكنْ يُمكننا أيضا أن نتذكَّر ترجمات أخرى أنجزتها أمُّكَ، وكانت استثنائية، مثل ترجمتها لحكايات د. هـ. لاورنس.

- أجل، إنها الحكاية التي منحت الكتابَ عنوانَه The Woman Who Rode Away، وهي في اعتقادي أصابتْ في ترجمتِها إلى المرأة التي ابتعدتْ راكبَةً. ثم لماذا لا أعترف أنها ترجمتْ، وأنّي راجعْتُ بعْدُ، وأني كدْتُ ألّا أُغيِّرَ شيئاً تقريباً، وكذلك كان مع تلك الرواية "النخيل البَرِّي" لفولكنر. وقد ترجمتْ كُتباً أُخرى عن الفرنسية والإنكليزية أيضاً، وكانتْ ترجمات جيّدة.

- بالتأكيد، لكنْ ربما أنك لم تلتق معها في عشق د. هـ. لورانس؛ أنا لم أسمعْك تتحدَّث عن لورانس أبداً.

-... لا، هي كان يُعجِبها د. هـ. لورانس، وأنا، في الأخير، كان لي حظّ قليل معه. طيّب، لقد انصرفتْ أمّي إلى الترجمة لمّا تُوفّي أبي؛ ثم فكَّرتْ في أنّ التعمّق في الإنكليزية هو أحد صيَغ الدنوِّ منه، أو تصنُّع الدُّنو منه".

يُطلعنا بورخيس أعلاه على أنّ الترجمة الشهيرة لرواية "النخيل البَرِّي" للأميركي ويليام فولكنر، والتي تُنسَب إليه، هي في الحقيقة من إنجاز أمّه، تصحيحاً منه لمُعطى مُتداوَل، وهو لعمري إلحاحٌ خفي منه على فكرته، التي يذهب فيها إلى أننا نحن البشر نكتب كتاباً واحداً، وفي الوقت ذاته، يضعنا أمام عظمة الأمِّ السخيّة مع ابنها، الذي لا تبخل عليه بشيء على الإطلاق، فهي هنا تتنازل بمنتهى الأريحية عن جهدها مُقابل أنْ يُنسَب إلى ابنها.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون