لعبت فنون الشارع دوراً تحريضياً في موجتَي الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها بلدان عربية عدّة، في تعبير عن فائض الغضب والاحتقان بسبب احتكار السلطة للفضاء العام عقوداً طويلة، وعن مطالب بدت مشتركة في نشدان الحرية والعدالة الاجتماعية، حفظت الذاكرة نماذج منها بعد تداولها في وسائل الإعلام.
كيف أثّرت مآلات الانتفاضات العربية بعد إخفاق معظمها في تحقيق غاياته على مضامين هذه الفنون؟ وما المزاج أو ردّة الفعل التي تحيل إليه مضامينها اليوم؟ وما هي حدود الرقابة بكلّ أشكالها التي تُمارَس على الرسائل التي توصلها "خربشات" الجدران؟ تساؤلات لا تطرحها الباحثة الأردنية ابتسام الخواطرة، لكنها تقدّم مقاربات للواقع ينبئ ببعض إجاباتها.
في كتابها "تحليل خطاب الجداريات في مدينة عمّان.. دراسة سيميائية"، الذي صدر حديثاً عن وزارة الثقافة الأردنية، تدرس الخواطرة أربعين نموذجاً في خمس مناطق بالعاصمة الأردنية، اختارتها من أصل حوالي ثلاثمئة جدارية وثّقتها فوتوغرافياً، ثمّ حلّلتها بحسب المعايير اللغوية وتماسك النصّ وطبيعة الرسالة التي تتضمّنها واتساقها الجمالي والسيميائي.
يغيب عن الجداريات كلّ ما له صلة بالحياة اليومية في المدينة
موضوع الدراسة لم يجر اختباره بشكل محدَّد وتفصيلي في أبحاث سابقة، وتعاين صاحبتها جداريات في أحياء القلعة واللويبدة ووسط البلد والعبدلي وجبل عمّان التي يتفاوت مستوى المعيشة فيها، لكن ربما تجدر الملاحظة أنّ هذه الأماكن هي من أكثر المناطق العمّانية التي صُمّمت جدارياتها لأسباب تزيينية من قِبل جهات رسمية ومنظّمات دولية، كما ذكرت المؤلّفة، مع الإشارة إلى تحليل جداريات وضعها أناس غير معروفي الهوية.
غير أن تدخّل هذه الجهات يعني أن المحتوى المقدّم يحمل رسالة مؤسسة حكومية أو أهلية، وعلى الجهتين، وتبطن توجيهاً أو دعايةً بأهداف وأيديولوجية معينة، خلافاً لنشأة الغرافيتي وفنون الشارع التي مثّلت إزاحة عن الواقع وتمرّداً عليه، وتأتي عملية الاستحواذ المؤسسي الموجّه ممنهجاً وواضحاً في العالم العربي بعد إعاقة الانتفاضات وتحويلها عن مسارها.
"التزيين" على اختلاف سويّة تمثيله جذَب طرفاً جديداً، بحسب الباحثة، التي تلفت إلى مبادرة تجّار في عدد من مناطق عمّان منذ فترة قصيرة بالطلب من رسّامين تجميل واجهات محلّاتهم، حيث تظهر أسماؤهم أسفل الجداريات التي ينفّذونها، في تقليدٍ يشير إلى نوع من الاعتراف بمهنة مستحدثة في المدينة.
من جهتها، تحلّل الباحثة نماذج من كتابات عفوية متناثرة هنا وهناك، يغلب عليها التعبير عن مشاعر وحالات وجدانية تتعلّق بالحب وهجران الحبيب وخيانته، أو عن الإحباط وتكثيف الخيبة والانكسار والإحساس بالخذلان من تصاريف الأقدار وسلوك الناس والسخط من الواقع وعدم الثقة بأحد، إلى جانب بعض الكتابات التي تنحاز لفلسطين ومواجهة شعبها للاحتلال الغاشم.
موضوع الدراسة لم يجر اختباره بشكل محدّد في أبحاث سابقة
ما عدا ذلك، يغيب عن تلك الجداريات كل ما له صلة بالحياة اليومية لأناس ينتمون إلى فضاء عام، فلا عبارات تسجّل أحداثاً على الاقلّ، أو تسجّل تنويهاً أو اعتراضاً على أمر يخصّ أوضاع الشارع الذي نُصبت فيه هذه الرسومات أو العبارات، أو نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون، أو رأيهم حيال موقف سياسي أو ظاهرة اجتماعية أو أحوال معيشية.
ولولا أن هذه الأعمال تضمّنها كتاب نُشر في الأردن، لأمكن نسبتها إلى أي مكان على امتداد الجغرافيا العربية، باستثناء عدد محدود من الكتابات تعبّر عن انحيازات فئوية وعنصرية تتعلّق بتنافس أكبر ناديين لكرة القدم في الأردن، هذا إذا أقصينا بعض الشتائم التي تعكس غضباً تجاه الواقع الأردني عموماً، دون تخصيص دوافع وأسباب محدّدة، كانت قد سجّلتها الباحثة لكنها لم تُضمّنها في دراستها، كما أشارت في اتصال معها.
مضامين تحتاج إلى مزيد من الدرس لاستيعاب بعدها عن الواقع، أو مدى فلترتها له، أو الهروب منه نحو مواقف عدمية لا ترجو التغيير.