ضمن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "الديمقراطية المستحيلة؟ السياسة والحداثة عند فيبر وهبرماس" لأستاذ العلوم السياسية والباحث الفرنسي إيف سينتومير، بترجمة أستاذ الفلسفة والباحث اللبناني جورج كتوره.
إن السؤال المركزي لهذا العمل هو تكريس المعرفة بإمكان حلّ معضلة دور الديمقراطية أو تجاوزها جزئيًّا، وذلك بربط المفاهيم التي تستند إليها سوسيولوجيًّا وتلك التي تكوِّن نموذجًا ديمقراطيًّا قيميًّا، بحسب بيان المركز الذي يُشير إلى أنّ الكتاب يركّز على صدقية النظرية المعيارية مع الأخذ في الحسبان النظرية الاجتماعية، بعد أن أخذ على عاتقه إبراز نقاط قوّة فلسفة يورغن هبرماس السياسية وضعفها، وهي المحاولة الأكثر إلحاحًا للإجابة عن التحدّي الفيبري ورفضه، والبرهنة أنّ بمقدور الشعب ممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة بطريقة عقلانية وعادلة، وأنّ الإرادة الشعبية "واحدة وغير قابلة للانقسام"، وتنبثق من نقاشات الفضاء العام، وتمنحها السلطةُ شكلَها المادّي في دولة القانون الديمقراطية.
كما يركّز الكتاب على محاولة هبرماس الإلمام بتناقُضات سيرورة العقلنة التي دمغت العالم الغربي وتوتراتها، خلال نقاشه أفكار كارل ماركس وإيمانويل كانط وجون سيرل وجون أوستن وجون رولز وميشيل فوكو، وإقامته حوارًا ثابتًا مع فيبر ومن جاء بعده، فهو بلا شك المنظِّر الوحيد في الديمقراطية الذي أجاب عن طروحاتهم بتوسّع، وبناءً عليه، تُعدّ مواجهة أفكار فيبر وهبرماس في العالَم الذي نحيا فيه مَعْبرًا إلزاميًّا للتفكّر في الديمقراطية، وقد نوقشت إعادة بناء التماسُك الداخلي لبراهينهما في الكتاب بكلّ أمانة مُمكنة، مع الإشارة إلى التوتّرات والحدود والنقاط الغامضة. وستُعرض حججُ المفكّرَين بوصفها تُقبل أو تُرفض مع حجج أُخرى، وليس باعتبارها منذ البداية حججًا واهية من خلال اعتماد موقف إسقاطي عليها.
إن السؤال المركزي للكتاب هو تكريس المعرفة بإمكان حلّ معضلة دور الديمقراطية أو تجاوزها جزئيًّا
وتُشكِّل مقاربة فيبر مسألة الديمقراطية إضاءة جانبية لـ "فكرته الأساس"، وهي تأكيد سياسة قوة الدولة الألمانية والقدر الفريد للمجتمع الغربي، في حين يدخل السؤال الديمقراطي في صلب النظرية السياسية لدى هبرماس، الذي حاول أن يربط بين النموذج المعياري للديمقراطية والدراسة التاريخية للدينامية الديمقراطية.
يتألّف الكتاب من قسمين وثمانية فصول، يُخصَّص القسم الأول لنظرية فيبر التي تعتبر أنّ السلطة في المجتمعات الحديثة لا تستقرّ إلّا على يد نخبة محدودة، ولقوله باستحالة الديمقراطية سوسيولوجيًّا وتاريخيًّا، وبناءً عليه لا نستطيع اعتبار دعوته إلى إدخال الحياة البرلمانية على الرايخ منظورًا ديمقراطيًّا. وبصرف النظر عن ظروف إبصار نظرية فيبر هذه النور، فإنها تشكِّل تحدّيًا للنظرية الديمقراطية المعاصرة، التي عليها البرهنة - خلافًا لفيبر - أنها ليست محكومة بالترجّح بين الفوضى والبيروقراطية والسيطرة الاستفتائية، وأنّ في الإمكان الدفاع عقلانيًّا عن منظور ديمقراطي.
كما يُبيّن أنّ لدى فيبر إشكالية في شأن المادّية التاريخية، وإذا ما قُبلت مقدماته النظرية لن يمكن التملص من خلاصاته السياسية والفلسفية التي ستتوالى بتماسك، وتدفع إلى الاعتراف بأنّ قدَر المجتمعات الحديثة التأرجحُ بين عالم تسيطر عليه البيروقراطية كليًّا واللجوء إلى أشكال كاريزماتية شديدة التسلّط. ومع ذلك، فإنّ في الإمكان سلوك طريق آخر مختلف: بالتفكّر في السيطرة من داخل الدائرة السياسية عينها، وبفهم جدلية السلطة التأسيسية والسيطرة باعتبارهما أمرًا يتقاطع اعتراضيًّا مع مجالَي الاقتصاد والسياسة.
أما القسم الثاني، فيُظهِر كيفية تطوير هبرماس نظريته في الديمقراطية ومحاولته الردَّ على التحدّي الفيبري، وجعْل الدينامية الديمقراطية البُعدَ الأساسي للفعل التواصلي في العالم الحديث، ما يمنح الديمقراطية تلك الواقعيةَ السوسيولوجية التي نفاها عنها فيبر. ولقد كانت مثيرة جدًّا إعادة هبرماس في أطروحة "استعمار العالم المعيش"، الصياغة عن تشيؤ العلاقات الإنسانية، لكنها اصطدمت بالمقولات الأنثروبولوجية التي تستند إليها، فلم يعُد بمقدورها تحويل الديمقراطية التواصلية إلى واقع مؤسّساتي. ومع ذلك، فإنّ الإضاءات المهمّة التي في إمكان الإشكالية الهبرماسية أن تقدِّمها بشأن حقّ العصيان المدني، والإجهاض، والتعدّد الثقافي، وحقّ ارتداء الحجاب الإسلامي في المدرسة، والنظام العالمي الجديد، وغيرها، هي إضاءات جزئية، ومن غير المؤكّد أنها تستطيع رفع التحدّي الفيبري. فماذا يُمكن أن نستخلص من هذه الإشكالية الهبرماسية لعقدَي الثمانينيات والتسعينيات؟
خلافًا لفيبر، يطوِّر هبرماس نظرية فعلية بشأن الديمقراطية، ويحاول بطريقة منطقية ربط تصوّرٍ يسمح بفهم الدينامية الديمقراطية "الموجودة فعلًا"، وتصوّرٍ آخر يقدِّم نموذجًا معياريًّا عن الديمقراطية، ما يُكسِب مواطني المجتمعات الديمقراطية حسًّا نقديًّا يُصقَل في النقاش العام. لهذا السبب اعتُبرت نظرية هبرماس معارضةً للنزعة النخبوية على نحو جذري، لكنها أيضًا ليست عِلموية، فالموضعة وقابلية الانعكاس في علم الاجتماع والفلسفة تقومان بتطوير القدرات الموجودة في النقاشات المنطقية عند المواطنين البسطاء وتنسيقها، بحسب الكتاب.
كما يوضّح بأن هبرماس عارض شكل النخبوية المعاصر المتمثّل في النزعة التكنوقراطية، ومن هنا يفسّر إمكان ممارسة المواطنين جماعيًّا السلطة التي تستدعيها الديمقراطية ويسمّيها هبرماس "تواصُلية"، وهي سلطة تتعارض مع العلاقة التي تشكّلها السيطرة.