ما تزال المدونة الفكرية العربية، رغم تراكمها على مدى عقود، غير مطروقة بما يكفي كموضوع بحث مستقلّ بذاته، وهو ما يخلق حولها حالة من الضبابية والأسطرة، وكلاهما مما يعيق إنتاج المعرفة وفهم علاقاتها مع الواقع.
منذ سنوات، تقدّم الباحثة اللبنانية إليزابيث سوزان كسّاب اجتهادات في قراءة هذه المدوّنة الفكرية العربية وتحويلها إلى مادة بحث علميّ، وقد قدّمت اليوم بعضاً مما وصلت إليه من خلاصات في هذا الإطار، ضمن اليوم الأول من مؤتمر "التفكير في العلوم الإنسانية في العالم العربي" الذي ينظمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (فرع باريس) و"كوليج دو فرانس"، ويستمر إلى الغد.
في 2010، كانت كسّاب قد نشرت كتاباً بعنوان "الفكر العربي المعاصر" (صدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية")، وقد صادف أن تلته مباشرة أحداث الثورات من تونس إلى سورية. لكن هل أنها مجرّد صدفة أن تلتفت باحثة إلى الفكر العربي، ويتزامن ذلك مع انتفاضة الشعوب العربية ضدّ أنظمتها؟
قد لا نجد علاقة مباشرة بين هذا وذاك، ولكن من بين النتائج الأولية التي تصل إليها كسّاب - وتعرضها خلال كلمتها - هي أن لحظة 2010-2011 تمثّل منعطفاً في مدوّنة الفكر العربي، كما كانت على المستوى السياسي، وهو ما تشكّله من خلال عدد من اللمحات والإشكاليات البحثية التي تطرّقت إليها.
وإذا بدا كتاب "الفكر العربي المعاصر" مرجعياً حين صدوره، فإن مؤلفته تراه من موقع اليوم مجرّد بداية لمسارات تفكير كثيرة، منها ما يتعلق بشكل مباشر مع واقع دراسات الفكر العربي، ومنها ما يتعلّق بمفهوم المعاصرة، وهما النقطتان اللتان تمفصلت حولهما الأفكار التي طرحتها خلال كلمتها.
تنبّه كسّاب إلى إشكالية تتمثل في اختزال دراسات الفكر العربي في دراسة النصوص، مشيرة إلى أن هذه النصوص تعتمد هي بدورها على نصوص، وبذلك تظل الكثير من إشكاليات حقل الفكر العربي غير مطروقة، وهنا تقدّم أطروحة مفادها أن العلوم الاجتماعية يمكنها أن تساهم بالكثير في هذا الصدد، حين تسائل مثلاً محدّدات إنتاج المعرفة الفكرية في العالم العربي، وتضرب مثالاً على ذلك بتساؤلات ممكنة حول دور النشر التي أصدرت أبرز الكتب الفكرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أسئلة من قبيل: "من يَنشر لمن؟ وحول ماذا؟"، وصولاً إلى أسئلة أبعد مثل قولها: "هل كان من الممكن أن يكتب العرب في مجالات الفكر بغير الطريقة التي كتبوا بها؟".
تشير كسّاب إلى أن تعمّقها في إشكالية دراسات الفكر العربي قد جاء ضمن فضاء "معهد الدوحة" حين عملت على صوغ مقرّر دراسي في هذا الإطار. هنا اصطدمت بصعوبات اختيار مدوّنة للدرس، فـ"أي نصوص تدخل ضمن هذا المبحث وأي نصوص ينبغي إقصاؤها؟".
المسار الثاني من مراجعاتها للحظة كتاب "الفكر العربي المعاصر" هو ما يتعلّق بمفهوم المعاصرة، وهنا تبيّن الباحثة اللبنانية أنها تفرّق بين مستويين في المعاصرة، مستوى الخصائص التي تجعل من النص الفكري معاصراً للمرحلة التي أُنتج فيها، ومستوى الشروط التي تجعل منه معاصراً لنا نحن اليوم، مع الفارق الزمني بين زمن الإنتاج وزمن التلقي.
قدّمت كسّاب كذلك مجموعة قراءات سريعة في مجمل تاريخ الفكر العربي بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، ومن القراءات التي تسوقها أنها ترى بوجود هيمنة للفكر ذي النزعة الأيديولوجية لزمن طويل خلال القرن العشرين على حساب الكتابات الفكرية النقدية التي كانت أقلية، لكنها ترى أن النزعة النقدية بدأت تجد مساحة أوسع في الإنتاج الفكري.
من جانب آخر، تشير كسّاب إلى أنها تؤمن بوجود خطابات متعددة داخل "حقل" الفكر العربي، وتؤكّد أن أحد انشغالاتها الأساسية هو الوقوف على هذا التنوع، وقياس مدى قربه أو مفارقته لقضايا المجتمعات العربية.
وحول الكتابات الفكرية بعد 2011، اعتبرت الباحثة اللبنانية أن هناك تخلياً عن الموضوعات الكبرى المهيمنة في فترات مثل السبعينيات والثمانينات مثل ثيمة الهوية، ومن ثمّ صعد بالتدريج مبحث الدولة ما بعد الكولونيالية، مشيرة بشكل مقتضب إلى تدخل الدولة في بروز ثيمة دون غيرها، من ذلك اطمئنانها إلى صعود المباحث الفكرية حول الأصالة في التسعينيات ضمن الانشغالات بمسألة العولمة.
كما تطرح التحولات بين الأجيال كعنصر تفسيري آخر يعمل لتوضيح تحوّلات الاهتمام بموضوع دون آخر في المجال الفكري، من ذلك نهاية عدد من المباحث مع نهاية جيل المثقفين الكبار من أمثال الجابري وأركون. وبشكل شبه صريح، تحيّي كسّاب تراجع مبحث التراث في الثقافة العربية المعاصرة.
بعد 2010، تؤكّد كسّاب على أن السؤال السياسي بات أكثر بروزاً، لكن الجديد في الفكر العربي هو ظهور سؤال الأخلاق وهي تفسّر ذلك بصعود العنف في المجال العام. تقول: "هناك ما يشبه التأمل الفكري في هذا العنف. ومنه عنف الدول التي تحكمنا"، مشيرة هنا إلى أعمال الباحث السوري عدنان حاج صالح. وتتساءل "إن لم نكن نشهد اليوم منعطف الإيتيقا في الفكر السياسي العربي".
أما خلاصة هذه القراءات فهي أن لحظة 2010 - 2011 تمثّل منعطفاً فكرياً في الثقافة العربية، ولا يمكن مقارنة هذه اللحظة إلا بمنعطف 1967، وقد أشارت كسّاب ضمن سؤال ورد إليها ضمن النقاش اللاحق لكلمتها أنها تعتبر أن 1967 هي اللحظة التي يمكن وضعها كنقطة بداية لتاريخ الفكر العربي المعاصر.