السيّد موران،
ها أنت اليوم تُغلق قوس قرن من الحضور في العالم. لا تبدو متعباً بالمرّة. تحضر بانتظام في وسائل الإعلام وتسافر لتُلقي المحاضرات، ولا تزال تُصدر الكتب وترقص حين تسمع الموسيقى. كلّها أشكال من الحضور في العالم، تماماً مثل التفكير والتنظير. عادةً ما نحتفي بمئوية مفكّر أو مبدع بعد رحيله، ونقول عنه بأنه لا يزال حيّاً بفضل ما تركه من مؤلفات. بهذا المعنى، فإن حضورك مضاعفٌ بيننا. يمكن أن نصفه بالمركّب، إذا استدعينا معجمَك.
لقد كنتَ طوال حياتك تُخلخل القناعات الفكرية والمفاهيم المرتبطة بها. اليوم، وكأنّك تخلخل مفهوم العمر وتضرب توقّعاتنا حول قدرات الجسد والعقل حين يتجاوز المتوسّط العام لعدد السنين التي تقضيها الكائنات البشرية فوق الأرض. لا تفعل ذلك بعمل تأليفي تتأمّل فيه الحياة، بل بممارسة الحياة ذاتها. يبدو أن العمر شيءٌ آخر غير ذلك الذي نعدّه بالسنوات والأشهر.
ربّما يعتقد بعضهم أنك كنت تعيش وفق نظام صحّي دقيق ومنضبط، وهو ما جعلك تبلغ هذه السن بمثل حيويّتك، لكنك لم تكن مجتهداً في ترتيب حياتك وفق نظام صحّي. تحدّثتَ ذات مرّة بأنك حين بدأت كتابة عملك الأضخم، "المنهج"، في نيويورك سنة 1973، كنتَ في حالة من السُكر، وواصلتَ إنجاز كتابك حتى تاريخ نشره في 1977 وأنت لا تفصل بين الكتابة والحياة الصاخبة مع الموسيقى والخمور والرقص والأصدقاء والصديقات. هناك من يُضحّي بكلّ هذا من أجل ذاك من دون أن يكسب أحدهما.
"التركيب". لعلّه يفسّر مفارقاتك هذه. تلك الكلمة التي جعلتَ منها عنواناً لمشروعك الفكري. المنطلق بسيطٌ لكنّه ثوريّ: الإنسان كائنٌ مركّب معقّد (المعنيان تجمعها كلمة واحدة في الفرنسية: Complexité) ولم تفعل المعارف والعلوم غير تقطيعه إرباً إرباً معتقدة بأنها تتقدّم خطوات نحو معرفته والإمساك بحقيقته. لذلك دعوتَ إلى عودة إلى النزعة الموسوعية، فهي وحدها تعيد تركيب المعارف كأجزاء مرآة مكسورة، ومن ثمّ يصبح من الممكن أن نرى الإنسان في مجمله من دون الادّعاء بالإحاطة به بشكل نهائي. ذلك قدر الإنسان: أن يكون مُفلتاً من المعرفة.
دعوةٌ إلى تحالف بين مختلف المعارف من أجل فهم الإنسان
في هذا السياق، سخرتَ من المعرفة التي تصدّرها المؤسّسات، من جامعات ومراكز بحث. قلتَ بشكل ساخر: "نُسمّى عالماً في المنظومة الأكاديمية الشخصَ الذي له إلمامٌ بمعارف مجالٍ ما والذي يترك فهم كلّ ما عدا ذلك". هذا النهج هو بالنسبة لموران، أقصر طريق إلى الجهل.
أوّل ما تعرّفتُ على فكرك كان عبر كتاب "البراديغم الضائع: الطبيعة البشرية" (صدر في 1973). في صفحاته الأولى، وضعتَ أمام القارئ ما يشبه الجدول:
الكون: سبعة مليارات عام تقريباً
الأرض: خمسة مليارات عام تقريباً
الحياة: مليارا عام تقريباً
الزواحف: 300 مليون عام تقريباً
الثدييّات: 200 مليون عام تقريباً
الإنسان (العاقل): بين 100 ألف وخمسمائة ألف عام تقريباً
الدولة: عشرة آلاف عام تقريباً
الفلسفة: 2500 عام تقريباً
علوم الإنسان: صفر تقريباً.
كنتَ بذلك تُسفّه أوهام البشرية في معرفة الكون ومعرفة الإنسان. مقابل ذلك الادّعاء الذي راج منذ القرن التاسع عشر بأن العلم بات ديانة البشرية الجديدة بما أنه يفتح أمامها الغيب. جئتَ لتقول بأن العلوم التي تعتقد أنها قطعت مسافات طويلة ما هي إلّا في الخطوات الأولى من معرفة موضوعها. قلتَ لهم: الآن فقط بدأت المعرفة. لا أحد أراد أن يصدّق. الكلّ كان يريد أن يظلّ مطمئنّاً إلى مداره في المنظومة العامّة للعلم، وبذلك بدأتَ تُدفع نحو منطقة التهميش، في تلك السبعينيات ذاتها التي شهدتْ صدور أعمالك الكبرى.
التهميش جزءٌ من النظام المعرفي في كلّ مكان. يُمكن سحب كلّ اعتراف منك لو أنك أزعجتَ المؤسسة. في فرنسا، تعرّض كثيرون لذلك، قلّةٌ نجحوا في اختراق القبّة البلّورية التي عوقبوا داخلها، مثل روسو مثلاً، وآخرون جرت محاولة خنقهم بالتدريج، مثل غوستاف لوبون أو روجيه غارودي. لقد نجحتَ أنت في قلب الطاولة، حين دفعوا بك إلى الهامش جعلتَ منه بؤرة جديدة للضوء وواصلتَ مشاريعك.
بشكل عام، تبدو ميّالاً لإضاءة الهامش. حتى وأنت بين جدران التخصّص الأكاديمي، علم الاجتماع، كنت ميّالاً إلى طرق مواضيع تُركت مهملة. جعلت ــ في بداية الخمسينيات ــ من الموت مادّة للدراسة، ثم جعلت من شغفك بالفنّ السابع منطلق بحث نشرته في 1956 بعنوان "السينما أو الإنسان المتخيّل"، وبدا أنّك وجدتَ طريقك الأخير بأن تكون عالم اجتماع متخصّص في السينما، وهو ما يدعمه إصدارك لأعمال أخرى مثل "نجوم السينما" (1957) ومشاركتك في إخراج فيلم "يوميات صيف" مع جان روش في 1961.
لكنّك انتفضت على هذا التوقّع، فخضتَ في مباحث حول الإشاعة وتحوّلات الحداثة في فرنسا وانشغلت بأحداث مايو/ أيار 1968 (ثورة الطلاب) زمنَ وقوعها. وقتها، جرى تصنيفك ضمن مشروع كان يجمع عدّة باحثين في علم الاجتماع: سوسيولوجيا الحاضر، وقد وُضعت في الصف الأمامي منه. هكذا رفعتك المؤسسة العلمية إلى أعلى الدرجات خلال عقدي الخمسينيات والستينيات. المطلوب: عليك أن تُخلص لاختصاصك المعرفي ولو كان ثمن ذلك عدم المعرفة. لكن كنت تريد أن تذهب أبعد في مغامرة المعرفة. فما العمل؟
منحته الجائحة اعترافاً بجدوى تنظيراته حول علم للأزمات
إنّك حقاً حالة مكثّفة تجسّد مفهوم "الكائن المركّب". أنت باحث في "المركز الوطني للبحث العلمي" حيث تتوفّر لك كلّ فرص إنجاز طموحاتك العلمية، يوحي ذلك بأنك في قلب النظام القائم، لكنّك تتصدّى لمواضيع تخرج عن المتعارف وتطمح إلى مغادرة التخصّص إلى آفاق أخرى. وحين دخلت تحت غيمة التهميش في بلادك، جاءك الاعتراف من الولايات المتحدة في السبعينيات لتُدعى محاضراً في جامعاتها، وقد جعلتَ من ذلك فرصة إعادة بناء معرفي جديد حين غذّيت معارفك في الإنسانيات بعلوم الأحياء والإيكولوجيا لاحقاً، وبدأ مشروع "الفكر المركّب" يتبلور بعدما كان مجرّد ملامح تظهر وتختفي في أعمال مثل "الإنسان والموت" (1951) و"مدخل إلى سياسة الإنسان" (1965).
كلما سُئلتَ عن الفكرة القادحة لمشروع "المنهج"، كنت تقول بأنّك شعرت في أميركا بأنّك "نحلة جمعت الكثير من الرحيق" من مختلف المعارف التي استطعت أن تلامسها. وقتها، وكأنّ شيئاً قد نطق في داخلك، فجلست مثل نبيّ يكتب تعاليمه. لكنّ المفارقة ــ وهذا وجه آخر من وجوه "الكائن المركّب" ــ أنّك كنت تكتب منهجاً كي تقول بأنّه لا يوجد منهج؛ علينا الاعتراف دائماً بوجود شيء ما يُفلت من المعرفة وأن نتعامل مع ذلك كأمر واقع وكجزء لا يتجزّأ من العلم. المنهج (La méthode) هو اللامنهج (L'a-méthode)، حسبنا أن نُحسن في كلّ مرّة تركيب المعارف لإنتاج حلول. هذا أقصى ما يأمل فيه العلم، وما عدا ذلك فهو تلاعب وتزييف.
من حقّ أيٍّ منّا أن يتساءل: بما أنّه لا يُفضي بنا إلى "منهج" نتبعه، لماذا إذاً كُتب مشروع "المنهج" وقد تواصل صدور مجلّداته الستة من 1977 إلى 2004 ("طبيعة الطبيعة"، "حياة الحياة"، "معرفة المعرفة"، "الأفكار"، "الهوية البشرية"، "الأخلاق"، إضافة إلى كتاب يلخّص المشروع بعنوان "منهج المنهج"). من دون هذا الكتاب ــ المغامرة لا يمكن أن يكون "الفكر المركّب" مرئياً لأنّ قوامه إثباتُ التداخل بين التقدّم والتقهقر، وبين الثورة والأزمة، وبين السيّئ والجيّد، وبين الفوضى والنظام (...). هذا التلازم خاصية بشرية، وبالتالي فهو يتجلّى في مجمل الظواهر البشرية.
يمنع المنطق التلازمي العلوم من بناء جدران سميكة بينها، فمع التخصّص ينبغي أن يكون هناك الوجه المقابل من العمومية لفهم الظاهرة في شمولها وعدم نسيان الهدف من العلم، وإلّا عاد إلى تقطيع أوصال الإنسان بين مختلف تخصّصاته. يحتاج القطع مع هذا التمشي الذي يسير فيه العلم منذ عقود إلى "تحالف" بين مختلف المعارف من أجل الفهم، ومن أجل بناء عالم جديد بسياسة حضارية مختلفة.
لعقود، بقي إيجاد تطبيق عمليّ لفكركَ مثل نقطة ضعف، يتّهمونك بالتّضخّم المفاهيمي وعدم الانضباط المعرفي، لكنّ ما عاشه العالم مع كوفيد-19 قد أعاد إليك اعتراف الجماعة العلمية. فالفكر المركّب يجيب على إشكاليات حدث عالمي مثل الجائحة، فهي ظاهرة لا يمكن إمساكها من تخصّص بعينه ولا يمكن أن يجابهه بلد بمفرده من دون مجمل البشرية.
لقد عاد الجميع إلى فكرة ظهرت في مدوّنتك نهاية السبعينيات وهجرتَها حين لم تجد لها آذاناً صاغية؛ الدعوة إلى "علم للأزمات" Crisologie. بدت فكرة مضحكة وقتها، لكنّ العالم يعرف اليوم بأنّ كلّ أزمة هي ظاهرة مركّبة. مثلاً، هل تبقى الأزمة الاقتصادية اقتصاديةً، فلا تتحوّل إلى أزمة سياسية واجتماعية؟ وبالتالي، تحتاج كلّ أزمة إلى فكر مركّب لمواجهتها. تحتاج إلى تجميع قوى كلّ المعارف من أجل محاصرتها.
يدفعني الحديث عن الأزمات إلى شقّ طريق نحو بلادنا العربية. وهنا، يخامرني سؤال: لماذا لم تذب أفكارك في رؤيتنا للعالم؟ كلّ الظروف مهيّأة كي نستفيد من فكرك؛ عدد لا بأس به من كتبك وصل العربية، وحاضرتَ كثيراً بيننا، تُناصر القضية الفلسطينية رغم أصولك اليهودية. أكثر من ذلك، يمكن القول بأنّ علاقة مصاهرة تربطك اليوم بالعالم العربي بما أنّ زوجتك صباح أبو السلام باحثة مغربية في علم الاجتماع. ماذا نريد أكثر كي ندمج الفكر العالمي في نظرتنا للعالم؟
في مئويتك هذه، لتُصلِّ معنا في سبيل أن نستأنف الحياة. أن نستيقظ. أن نواجه دوّامات متلاحقة من الأزمات، كثير منها مفتعل. أن نسترجع بعض هدوء النفس ورضاها. أن تبلغ مشاريعنا مداها. أن يتوفّر لنا الحدّ الأدنى من السعادة التي يحتاجها كلّ مجتمع. أن نستعيد الرغبة في المعرفة. أن تكون لنا القدرة على التعلّم. أن نحسن استعمال ما تعلّمناه بعد ذلك. لنا أن نتمنّى أيضاً لأنفسنا طول العمر مثلك، ولنحسن إنفاق سنواته كما فعلت. لنُصلِّ كي يكون لحياتنا معنى. الحياة! يا لها من فكرة مركّبة ومشروع إبداعي في حدّ ذاته، لعلّه لا يكتمل أبداً.
كلّ قرن وأنت طيّب.