لطالما شكّلت الحواضر الإسلامية محطَّ اهتمام عند مؤرِّخي العلوم، وذلك لما لعبته من دَورٍ فاعل، لا في نقل معارف الأُمم السابقة وتطويرها فحسب، بل في التأسيس لحياةٍ عِلمية جديدة، قوامُها فلاسفة ومتصوّفة وقُضاة وعُلماء وتراجمة. وتحضر بغداد، على رأس هذه الحواضر، حيث تسيَّدت منذ تأسيسها المشهدَ الفكري، بما احتوته من مدارس وصروح تعليمية، كما كانت مسرحاً لكثير من الجدالات التي دلّت على تنامي الحالة المعرفية والفقهية الإسلامية.
هذا ما تلتفت إليه الباحثة من أصول إيرانية إلاهه خيرنديش في كتابها: "بغداد وأصفهان: حوار مدينتين في عصر العِلم (نحو 750 - 1750)"، والذي صدرت ترجمتُه حديثاً عن مكتبة "جليس"، بتوقيع المُترجِم أزدشير سليمان؛ حيثُ تبحث المؤلّفة فيه إمكانية الربط الثقافي بين المدن الإسلامية، من خلال نموذج بغداد - أصفهان، مُشبّهةً المدينَتين بالشمس والقمر "تبزغ واحدة عندما تأفل الأُخرى".
وعلى مدار ألف عام، شهدت كِلَا المدينتَين جوّاً يمكن أن نَصِفَه بـ"التشارُك العِلمي"، وهو ناجمٌ عن وضعية التلاقُح الحضاري التي ارتسمت أُولى ملامحها منذ ذلك الحين؛ في الوقت الذي كانت مدنُ العالَم الأُخرى تعيش مُنغلقةً على أسوارها القروسطية.
كذلك يتطرّق الكتاب (صدر بالإنكليزية عن منشورات "آي بي توريس" عام 2021) إلى أهمية الترجمة؛ التي بدأت أوّلاً في عصر بغداديّ ذهبيّ إبّان ازدهار الخلافة العبّاسية، ثم تحوَّلت إلى منظومة شملَت باقي الأطراف، خاصة في الفترة التالية، عندما جاء دور أصفهان لتبرز في المشهد الثقافي بين عامَي 1500 و1722. وفي هذا الإطار أتاح تجاوُر اللغتين العربية والفارسية، الكثير من المعارف أمام طُلّاب العلوم، الذين شكّلوا ظاهرةً كبيرة عَبْر العصور بانتقالهم وسَعيهم من أجل الدراسة.
يتوزّع الكتاب على سبعة فصول، هي: "الزمان والمكان"، و"القمر والشمس"، و"الدائرة والمربّع"، و"كلمة وخطّ"، و"شرق وغرب"، و"عتيق وحديث"، و"التدبير والحظّ". وعلى مدى هذه الثنائيات، تؤكّد الباحثة فكرة انتقال أبرز الكتب العِلمية إلى الضفة الأوروبية، انطلاقاً من الضفة الإسلامية، وتضرب مثالاً على ذلك بـ"كتاب المناظر" لابن الهيثم، الذي تُرجِم في البلاطات الأوروبية إلى اللّاتينية، وتأسّست بالاعتماد عليه المبادئ الحديثة لعِلم البَصَريات.
الجدير بالذِّكر أنّ إلاهه خيرنديش تعمل مُحاضِرة في "جامعة هارفارد"، ويركّز عملها البحثي على تاريخ العُلوم الرياضية والفيزيائية، وقد ترجمت وحقّقت النسخة العربية من بصريات إقليدس، ونشرتها في مجلّدين بالإنكليزية؛ كما شاركت في إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية التاريخية.