أمّهات الحياة في فلسطين

02 ديسمبر 2023
أُم تخبئ وجه طفلها لحمايته، غزة 10 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي (Getty)
+ الخط -

إنّه ليُحزنني، عددَ ما في الكواكب من نجوم ومعانٍ، أن أرى نساء فلسطين يتجرّعن الألم مرّة تلو الأُخرى وبلا توقف. ففي حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، تتساقط النساء والأطفال بأعداد هائلة، وتخرج النساء بعد كلِّ موت وفي أحلك اللحظات يكافحن ويصنعن معجزات الحياة في معمعة الموت والدمار والقسوة التي فاقت كلّ التصوُّرات.

رأيتُ كثيراً من النساء يفترشن الأرض ليعملن الخبز، ونساء يشيّدن من قلوبهن بيوتاً لأبنائهنّ وبناتهنّ، علّ السكينة تتنزّل على قلوبهم، وتأتي الحياة كما ينبغي للأحياء أن يعيشوها.

إنّ نساء فلسطين هنّ اللواتي يشققن الأرض والسماء بحثاً عن حياة ما، في هذه البلاد المكلومة مرّة تلو الأُخرى، كي يبقى خفَق الأمل في عيون الأبناء والبنات ويكملوا مسيرة التحرير المعبَّدة بالدم والدموع وانكسارات القلب.

ما من امرأة في فلسطين إلّا وحلّت عليها فاجعة الفقدان، سواء في الأبناء أو البنات أو الجيران أو الأصدقاء وغيرهم، وكلّ فلسطين للمرأة الفلسطينية عائلةٌ واحدة، وشعور الظلم والمحبّة للوطن المعذَّب واحد، لأنّ الأرض واحدة، والتاريخ واحد، والهموم المتكرّرة واحدة.

أعرف نساءً فلسطينيات رُمّلن، ومنهن من فقدن أطفالهن، وأُخريات ينتظرن أبناءهنّ وهُم في السجون، وأُخريات فقدن بيوتهن، وأُخريات يعانين الآمرَّين لتوفير الحدِّ الأدنى من مقوّمات الحياة لأسرهنّ.

أُمّهاتُ فلسطين هُنّ راياتها الخفّاقة في سماء هذا الكون الموحش، وهنّ المعنى في هذه الحياة المهلهلة. هُنّ من يكتبن الدرس بقلوبهن وصبرهن ويحملن مواريث الحقيقة في نظرات عيونهن، وهُنّ طبيبات يداوين المجروحين، ويحرسن الجراح المتعاظمة كمّاً ونوعاً في فلسطين، وهُنّ المعلّمات يكتبن الدروس على لوائح من خشب ونار ليضئن الطرق أمام أبناء الشعب الفلسطيني وهُم يمضون نحو الأمل المضمَّخ بالدم ليستعيدوا بلادهم السليبة، وهنّ الصحافيات يُقدّمن وقائع الأحداث وهي تتكاثر وتأتي نيرانها على الأخضر واليابس.

الأمّهاتُ الفلسطينيات ونساءُ فلسطين على امتدادها، هُنّ من يُنجبن الحياة ويكتبنَ كتبها يوماً بعدَ يوم.

سيّدة الكون، وعلى مناهج البلاغة أن تنحني لذلك
 

جديرٌ بالبلاغة وإن كانت حمّالة أوجه، وكثيراً ما تجرُّ حبالاً لا معنى لتمدّدها، أن تجنحَ جنوح الكرم والحبّ لأمهات فلسطين ونسائها، لأنّهن عناوين الخير والوجود السامي في هذه البلاد، وهي تتعثّر وتسعى، علَّ انعطافة ما في عُقد التاريخ تُحرّرها من حاملي الشرّ وسواد الدنيا على رؤوس أهل البلاد.

فلتدُم في قلوبنا صورة الأُمّ التي حملت طفلتها وألقت بكامل دفء القلب ولهفة الروح تلفُّها وتحضنها وتحاول قضاء ما يمكن قضاؤه مع طفلتها التي قتلها الغزاة الهمج. ولتدُم في قلوبنا الأمّ التي لمعت عيناها وهي تحضن أبنها وتُطمئنه بأنّ هدم البيت يهون، ما داموا أحياءً.

لنحفظ صور الأمّهات اللواتي عصرن آخر ما يمكن عصره في الحياة وهُنّ يتدبّرن أمورهن من أجل حياة أبنائهنّ وبناتهنّ، ومن أجل البلاد. الأمّ الفلسطينية سيّدة الكون، وعلى كلِّ مناهج البلاغة أن تنحني لذلك.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون