في كتابه "تيارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية" الذي صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يضيء الباحث اللبناني ألبير داغر أفكارَ تياراتٍ ثلاثة معاصرة تناولت دور الدولة في التنمية بوصفها تحويلًا صناعيًّا.
تنقسم هذه التيارات إلى تيار المؤسساتية المقارنة، وتيار ما بعد الكينزية، وتيار البنيوية الجديدة، بحسب الكتاب الذي يقدّم عرضًا للأدبيات المتداولة في الاقتصاد السياسي بشأن الدولة العربية، ويستدل بالسياسات البديلة في ميدان التنمية كما أوحت بها التجربة الآسيوية، وهي التجربة الوحيدة التي أتاحت للبلدان التي اعتمدتها الخروج من التخلّف وتحقيق "تصنيعها المتأخّر".
يوفّر الكتاب دليلًا نظريًّا لسياسات التنمية العربية البديلة من خلال المدارس الفكرية الثلاث المذكورة. ويوفّر أيضًا دليلًا عمليًّا لهذه السياسات من خلال ما اقترحه في ميادين الإدارة العامة وكيفية الانخراط في العلاقات الدولية والتعليم العالي والتصنيع.
يدرس الكتاب تيار المؤسساتية المقارنة، وتيار ما بعد الكينزية، وتيار البنيوية الجديدة
يطرح المؤلف مجموعة تساؤلات مثل: هل ثمة حاجة إلى التوسّع في النقاش الفكري المتعلق بالتنمية العربية والأسباب التي تجعلها أمرًا مستحيلًا؟ هل تزامنت الانتفاضات العربية منذ عام 2011 مع نقاش فكري جدّي حول البديل التنموي؟ ألا تزال المقاربات النيوليبرالية للتنمية طاغية في النقاش الاقتصادي إلى حدّ احتلال المشهد كلّه؟ أَليست ثمة حاجة ملحّة إلى النظر في ما تقوله التيارات الفكرية التي لا تحتلّ قلب المشهد، لكنها تقدّم حلولًا أكثر منطقية لمعضلة التنمية؟
يشير الكتاب إلى أن الأشهر في تيار المؤسساتية التاريخي هو كارل بولانييه، كما يستعرض أفكار هذا التيار من خلال أعمال جيل الثمانينيات والتسعينيات من المؤسساتيين، من خلال بيتر إيفانز من جامعة باركلي، وتيدا سكوكبول، وديتريش ريشماير. وهي أعمال وضعت هذا التيار على مسافة من الماركسية الجديدة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، ومن النفعيين الجدد الذين وفّروا للنيوليبرالية قاعدتها الفكرية منذ ثمانينيات القرن العشرين.
واعتُمدت أعمال الاسكتلندي رايموند هينبوش لتعريف البنيوية الجديدة وتمييزها من البنيوية القديمة التي تُنصّب "النظام الدولي" مسؤولًا وحيدًا عن مصائر بلدان العالم الثالث، بينما تأخذ البنيوية الجديدة في الاعتبار دور النخب المحلية في جعل التبعية واقعًا قائمًا، واعتُمدت أعمال الباحثين في التيار ما بعد الكينزي أيضًا، خصوصًا ماريو سيكاريسيا ومارك لافوا، للتعريف بفكر كينز، على نحو مغاير لِما سوّقته المدرسة النيوكلاسيكية، وللتعريف بـ "كينزية ما بعد الحرب" 1945–1980، وللتعريف كذلك بالأساسيات في فكر كينز، وفق الكتاب.
ويبيّن أن التيارات الثلاثة تتكامل في تقديم جواب عن معضلة التنمية. وإذا كانت المؤسساتية المقارنة تقدّم دليلًا على أنه لا مناص من دور الدولة في التنمية وتُعيّن شروط هذا الدور، فإن ما بعد الكينزية يسهب في عرض السياسات التي تتولى الدولة اعتمادها، في حين تعيّن البنيوية الجديدة العوائق التي تتأتى من طبيعة النظام الدولي وتمنع الدولة من تنكّب دورها.
ويرى داغر أنه على مستوى الإدارة، بدت مشكلة الدولة العربية الأساسية في طبيعة الإدارة العامة التي اشتملت عليها. وهي إدارة لا تستوفي شروط الإدارة "الفيبرية" التي كانت وراء النمو الرأسمالي في الغرب. وأهم خصائص هذه الإدارة أنها تقوم على الاستحقاق، وأنه يجري تنسيب العاملين فيها من خلال مباريات وطنية. وهي توفر للعاملين فيها الأمان الوظيفي من خلال تثبيتهم، وتوفر ضمانات لهم تجعلهم بمنأى عن الضغوط التي تمارسها مجموعات الضغط المختلفة. ثمّ إنها إدارة تتيح للعاملين فيها، إذا ما أُخذت في الاعتبار المواصفات التي أُشير إليها، أن يتحوّلوا إلى خبراء في ميادين نشاطهم على نحو يُعوّل عليهم لدفع التنمية إلى الأمام وتحقيق النمو الاقتصادي.
ويلفت إلى أنه على مستوى شكل الانخراط في العلاقات الدولية، تُظهر السنوات الأخيرة أنه ما من دولة عربية تجرؤ على مخالفة مسار الدمج في النظام الدولي وفق شروط المؤسسات الدولية، وتُظهر أيضًا، التزامًا من هذه الدول، أكبر ممّا كان سابقًا، بالأجندات التي تفرضها المؤسسات الدولية، وخضوعًا أكبر منها لإملاءات هذه المؤسسات.