استمع إلى الملخص
- يجمع بعلبكي بين الواقعية والتجريد، مركزاً على الضوء كعنصر مركزي يعكس العمق الروحي للموضوعات، ويناقش العلاقة بين الفن والمدينة مع التأكيد على التراث الفني اللبناني.
- يتناول مفهوم التراجيديا بطريقة تخدم اللون والتكوين، معبراً عن الترقب والقلق في أعماله التي تعكس التعقيدات الإنسانية والغنائية المخنوقة، مقدماً رؤية فنية تأملية.
لا يدري الناظر إلى أعمال الفنّان اللبناني أسامة بعلبكي، التي يُقدّمها في معرضه الجديد "ضوء داخلي" (يستمرّ في "غاليري صالح بركات" بـ بيروت حتى 20 تموز/ يوليو المقبل)، إلى أيّة مدرسة يردُّها أو إلى أيّ سياق؛ فهي تُوحي بأنها تبدأ وتنتهي في مكان واحد، دون أيّ لجوء إلى تشويه أو تلطيخ أو زوائد أو حشو. لوحةٌ تحاكي هذا العالم المأزوم وتتحاور معه وتنطلق في قراءته. اللوحات المتوافقة المتكاملة الساطعة والسابحة بأشكالها وتفاصيلها وموضوعاتها هي أرضية صالحة للحديث تتجاور مع كلام صاحبها، تتّخذ عمقها من لونها وضوئها الذي يُغلّفها، هي تأتي في سلسلة من المحاولات لاتخاذ أبعاد للعمل.
أمام لوحة المرفأ، ما زلنا نُعيد ونُكرّر فيديو تفجير المرفأ، نقرأ ذلك من عنوانها العكسيّ ونكتشف أنّ الوقت لا يمرّ بسرعة. مواضيع مشتّتة وأماكن ووجوه وناس في مدينة يراها الفنّان ويؤرشف لحظاتها من الداخل والخارج. من لوحة الإصبع على الجرح- الحائط، إلى البنايات والأجزاء ومناظر المدينة والضيعة وصورة الكنف العائلي وذاكرة الأهراءات التي لا تتوقّف عن النزف، نرى أنّ الحميميّة، لو صحّ التعبير، هي التي تطغى.
في لوحات بعلبكي، يقف المتفرّج أمام الأثر حين يرسم الفنّان ويخلِّد مشاويره اللونيّة، أمام النسخة اللونيّة الجامدة بلا خدوش، لوحات مفلترة ناصعة وصافية تصلنا برهافة وصدق.
حول المعرض وأحوال المدينة المنكوبة وشجون الفنّ، يتحدّث الفنان إلى "العربي الجديد".
ضوء داخلي
نسأل أسامة بعلبكي، بدايةً، عن "ضوء داخلي"، العنوان الذي اختاره لمعرضه الذي يتضمّن ستّين عملاً، فيجيب: "ليس العنوان استثنائياً، ربما الرابط الذي نجده في أعمال المعرض وأبعاده هو هذا الضوء، العمق الداخلي والضوء الصادر عن الروح. أمّا الإضاءات الطبيعية أو الصناعية فتغدو مسألة تشكيل. وبهذا الشكل، يغدو العنوان شيئاً فشيئاً بديهياً".
ما من فنّان يمكنه ألّا يبني على تجارب من سبقوه
ويوضّح: "ما يجمع بين الأعمال هو الضوء وفعاليته، لعبة الضوء واحتفاليته بشكل معين، الضوء الطالع من غلاف جمجمة هو خارجي وداخلي في آن. ذهول ضوئي، تعبّد ضوئي كأنّها أنفاق ضوئية موصولة ببعضها، بطلٌ يلعب كلّ الوقت في التفاصيل بين لعبة الضوء والاختفاء والغياب والحضور".
نستفسر عن إمكانية ربط العنوان بهذه المدينة، فيقول: "بالطبع له علاقة بالمدينة، ليس فقط بالمدينة، بل بالطبيعة اللبنانية أو بالداخل أو الإضاءة التي تحكم حياتنا الداخلية. النغمة الداخلية التي ترافق أعمالي منذ البدايات هي خليط غريبٌ من نوعه، جمعٌ بين التشاؤم والإقبال على الحياة، بين الرغبة وعكسها. حتى في حياتي اليومية أنا هكذا بين هذين الحدّين. تستطيع أن تقول إنّه نفور من الحياة ووقوع في حبّها في آن".
يفتتح المعرض بلوحة تتضمّن بورتريهاً للرسّام الهولندي فينسنت فان غوغ ومن حوله أشخاص ينظرون إليه بذهول. يقول بعلبكي عن اللوحة: "تستطيع القول إنّها تحية للرسام، لحظّه العاثر ولتعاسته، تحيّة له كمرسَل خاسر. حظّه كان ملعوناً. اللوحة هي، نوعاً ما، محاولةٌ للسؤال: كيف أصبح قبلةً للمتفرّجين؟ كيف انتقل من أعمق قضية للنسيان إلى مولّد للحرارة والعاطفة في العالم؟".
ويضيف: "فان غوغ هو الرسّام الذي يجمع روحه الشخصية بالعالم. أفكاره الروحيّة تخطّى من خلالها فكرة الرسّام، برسائله وسلوكه وصدقه - صدق المهزوم الحقيقي القابع في العتمة والشقاء. هكذا هي القصّة بخيالها وتراجيديتها وشفافيتها. اخترتُ اللوحة للافتتاح ربما تماثلاً مع صورة الفنّان الذي يحب الواحد أن يكونه؛ الفنّان الراهب اللاعب بالرغبة، والمرتكز على الإشراق الضوئي والجمال والفوضى وكلّ الصور السحريّة التي لها إمكانية أن تبقى".
ملاحظات على الواقع
نسأله عن الأعمال المعروضة وعن مدى ارتباطها وعلاقتها بالواقع اللبناني اليوم، فيجيب: "يلتفت المعرض إلى المُعاش، فهو خلطة عجيبة تنطلق من ملاحظاتي على الواقع المحلّي اليوم. في الأعمال نوعٌ من الإحياء السينمائي ولمسة مشوّقة والقليل من الدراما، كلّ ذلك بحسب ما يتطلّب العمل من حركة. بنوع من الحدس، تتحرّك عملية الرسم بيسر بين الدماغ والعين والقلب واليد. هذه العملية تحصل بسهولة ودون أدنى التفاتة. هذا هو العالم الذي أراه، وفيه شيء من الواقع، ومنه المحلّي أيضاً، بدرجات متفاوتة".
نستطرد لنسأل عن المفارقات التي تشغل الأعمال المعروضة وهل هي مقصودة، فيقول: "كلّ هذه مفارقات من أشغال ساكنة وغنائية وصادمة ومتوتّرة، مزيج بين ظلام ونور، ثنائيات، حساسية الخطر والطمأنينة، كلّها معانٍ يتمّ صهرها في لحمة واحدة، ضرورات لوجود العمل أو ليبرّر نفسه لوناً أو شغفاً".
حضور الذاكرة
عن حضور الروح المحلّية في أعمال المعرض، يقول: "في الأعمال نكهة بيروتية من الهواء، المباني أو الأشخاص. الضوء اللبناني، المنظر الرعوي الريفي أيضاً، والذي يمكننا أن نراه أو نستعيده، بوصفه نغمة آتية من هذا التسلسل. طبعاً في الأعمال روح محلّية، لك أن تنظر إلى الأشياء القريبة منّي، حين أرسم عائلتي تخرج الأشياء على شكل مراقَبة للذات وسبر لأغوار الداخل".
وعن حضور الذاكرة يقول: "بعض الأعمال فيه تذكّر طبعاً، وهي تبني عليه. حين أمرّ، مثلاً، بجانب بناية مساءً، أرى مكاناً أجرد ولكنّه جذاب، هذه الفوضوية غير المرئية فيها عضوية حيّة. هذه المواصفات كلّها تدخل في رأسي، لأنّني أجد فيها شيئاً من الألفة والحميمية، تتخطّر في بالي الصور وأركّبها وتبقى فيّ لسنوات. وهكذا، من خلال المراقبة والتخطّر طويلاً، تخرج هذه اللوحة بعد مسافة زمنيّة".
المفارقة هي التي تُكهرب المعاني وتصنع اللوحة
نسأله عن مسألة المسافة الزمنيّة وما الذي تعطيه للّوحة المنجزة أو التي تتحضّر للإنجاز، فيجيب: "الانتظار الطويل يمنحني إمكانية مراكمة مئة زاوية وذكرى لمشهد في وقت محدّد ولحظات محدّدة. أراقب وأُراكم، بمرور الوقت، هذا المشهد الجذّاب، الإضاءة النادرة المخيفة والوحشيّة نوعاً ما، الاختلاط الغريب بين الليل والنهار، كلّها تجتمع وتحملني إلى شيء آخر قابع في ذاكرتي هو ذاكرتي في الجنوب متنقلاً بين القرى والدساكر مشاهد من الرهبة والجمال، كلّ هذا التخزين لمشاهد يتم إنتاجها بنفس الطريقة، تصبح الأشياء "معجونة" بثقة وتأليف وقوة وسهولة والأهم بشيء من البصمة".
نسأله، أيضاً، عن البصمة ومقوّمات اللوحة كي تبقى فيقول: "عدا عن الإمكانات الواقعية والموهبة الراسخة، أشعر بأنّ ما يبقى من العمل الفنّي هو الصدق في التلوين، الصدق هو مهمّة الرسّام. أضف إلى ذلك الاستغراق بالمادة والحساسية. ساعات العمل ليست بمُهمّة، وإنما الأساس هو الاستغراق فيه، يمكن أن نكتشف العمل 'البرّاني' من الصميمي من هذه الإشكالية. آثار الريشة، نوعية اللون، وكيفية إطفائه، المزج بين الخيال والعاطفة، الصدق مع العمل المادّي، كلّها وقفات و'تريكّات' تُبرز العمل وتجعل العمل 'البراني' مكشوفاً. أضيف هنا أنّ الحرارة التي يصبّها الفنّان في لوحته مُعدية، لذلك مثلاً حين ندخل إلى فان غوغ ندخل كأنّنا في هالة لونيّة تحكي وتعاني وتفرح وتتمرّد. في العمل شيء من الحياة. كلّ هذه هي بصمات الفنّان الذي يتنفّس من خلالها بطريقة مقنعة تغدو بصمته التي تخرجه من طور الموت".
ننظر مع أسامة بعلبكي إلى لوحات المناظر الطبيعيّة ونسأله عن علاقتها بالمدرسة اللبنانية وكيف تبني عليها، فيجيب: "في جانب أوّل، الموضوع له علاقة بطفولتي، فأنا تربّيتُ في الجنوب اللبناني خلال فترة الحرب، تربّيتُ بين الجبل والسفح والأودية وعشتُ طفولتي وشيئاً من يفاعتي. الأمر الثاني بالطبع هو الاستمرار والبناء على رسّامي المنظر اللبناني وتمثيلهم له. مثلاً، حين أفكّر في عمر الأنسي، قيصر الجميل، وصليبا الدويهي، هناك شيء متوسّطي يصدح في أعمالهم، تستطيع القول إنّ هناك ضوءاً نحاسياً فضّياً قوياً، ظلالاً كحليّة. من ينظر يجد هذه الاستمرارية بالطبع، أسطورة المنظر اللبناني موجودة بشكل ما، النباهة، اللون الأخضر وألوان خانقة أُخرى، كلّها ترد إلى ذلك المكان الخام".
ويضيف: "ما من فنّان يمكنه ألّا يبني على من سبقوه، ينبغي على الفنّان أن يكون مشتبكاً مع من سبقوه، بانياً على إرثهم وتراثهم، الارتباط معهم بشبكة زمنية. عليه أن يربط بالمحلّي والعالمي في الوقت ذاته، يحصل ذلك من دون تخطيط من خلال هذا التجوال في الإحالات والتأثّرات والقابلية للامتثال بمدرسة لونية فطرية بعيداً عن البساطة، حين تدرك من أين تأتي وإلى أين أنت ذاهب تبدأ القصّة".
تراجيديا كونيّة
في زاوية أُخرى، وأمام أعمال كورونا وغيرها نستفسر من الفنّان عن حضور التراجيديا في أعماله، فيقول: "اللوحات فيها شيء من التراجيديا، ولكن تستطيع أن تقول إنّها تراجيديا ممسرحة دون ابتذال عاطفي. ممسرحة بمعنى أنّها تراجيديا على منصّة، ليست التراجيديا التي تدعونا إلى التعاطف. كلّ هذا يحدث بما يلزم اللوحة. التراجيديا تحضر لتخدم اللون والأنفاس وليست للتجارة. كلّ فنّ يرسم التراجيديا مؤطّرة يكون فيه نوع من التواطؤ. دائماً ما أحرص على أن يكون ميزان العاطفة لديّ مدوزناً، السخونة مقابلها برودة، أو بمعنى آخر تفتير للمعنى والرغبة بعد إثارة لعاب العاطفة. هكذا أشتغل كي أكسر أوقات الروح التي تُظهر وجدانيّة كثيراً، يمكن أن ألجأ مثلاً إلى شيء من الدعابة المبطنة، غمزة مجّانية، خليط من الجوهري والمجّاني. هذا العمل بالمقادير المدروسة هو الأساس، مثلاً في لوحة بيروت ما بعد كارثة الانفجار، خلطنا الواقع بالشاشات والفيديو. المفارقة في هذا العمل هي التي كهربت المعاني وصنعت اللوحة، وهذا النوع من المقادير وعمليات حقن الجدّي بالهزلي وحقن الجوهري بالمجّاني، كلّها كفيلة بتقديم هذه المخاتلات البصرية".
غنائيّة مخنوقة
قبل أن نختم، نسأله عن هذا الغناء الحزين الذي يُغلّف أقبية اللوحات وخلفياتها، فيجيب: "يمكننا أن نقول ذلك، خصوصاً في لوحات الموت وسلسلة كورونا. كلّ هذا الحزن خرج بطريقته القلقة عند أوّل صدمة مع العزلة، فغدت الريشة تتحرّك بمزاج تأبيني... أو مثلاً حين وضعتُ عائلتي وكأنّهم على مدخل مسرح وعلى علاقة وتماس مع الجمهور. الاصطفاف يُلغي نفقاً زمنياً بين المشاهد والناس. كلّ هذه الأشياء تُلغي تلك الرغبة بالارتداد إلى زمن سحيق".
ويضيف: "يمكن أن أوافق على الغنائية ولكن أيّ غنائية؟ ربما نجد غنائيّة تخالطها دينامية خطر، غنائية مدينية وشحوب العصر، غنائية الترقّب والقلق. مواصفاتها هذه قد تلغيها من جوّ الغنائيات المعروفة، ولكن يبقى هذا الشحوب والتلوّث والتلبّد والمزاج المختنق بعيداً عن الاحتفاء. نعم أوافق على الغنائية لكنّها متقهقرة، أو مدنّسة، غنائية تشتغل الوقت كلّه لتدافع عن نفسها".