شهد التاريخ القريب والبعيد أحداثاً بيّنة بذاتها، مثل الاعتداء على حريات الشعوب وأراضيها وثرواتها. ولكنّه شهد أيضاً أحداثَ اعتداءاتٍ مماثلة في مجالاتٍ أخرى؛ اعتداءات تظلّ خفيّة في أسبابها ونتائجها، أو لا تلفت نظرَ إلّا قلّة من الناس. من هذه الأحداث ما تتعرّض له هويّةُ لغةِ شعبٍ من الشعوب من تزوير وتلفيق يُبعدانها عن الشجرة التي تنتمي إليها، ويلحقانها بجذعٍ غريب عنها مكاناً وزماناً، وما تتعرض له ثقافة شعب من الشعوب حين يتمّ إسقاط فترة زمنية طويلة من تاريخها شهدت مساهمتها في هذا الجانب الحضاري أو ذاك.
في كلا الحالين، نحن أمام محْوٍ للهوية، سواء كانت لغوية أو ثقافية، وطمسٍ لملامحَ سيكون له أثرٌ بالغ على كل المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، يتمثل في خسائر معنوية ومادية لا يمكن تعويضها في أغلب الأحيان. وأيُّ متابعٍ يقظٍ لأحداثٍ من هذا النوع لمدّة طويلة نسبياً، سيكتشف كم هي مُدمِّرةٌ أنماطُ المحو هذه، والتي تكاد تتفوق على المحو الجغرافي لوطن، أو استبدال اسمه باسمٍ آخر. في المقابل، نجد أن التاريخ يشهد، أحياناً، أحداثاً معاكسة تتمثّل في استعادة الهويات المفقودة ولو بعد حين، وكثيراً ما تشهد الأحداث في هذا السياق كفاحاً وتضحيات يبذلها الشعبُ الذي أُبعد عن هويته اللغوية، أو سُلبت منه، أو أُبعد عن منجزات أسلافه الثقافية، أو يبذلها أفرادٌ منه، من أجل استعادة أزمنته المفقودة من حساب تاريخه، أو استعادة صلاتٍ لغوية له بلغته الأمّ التي محَتْها أفانينٌ من المطامع السياسية أو الاقتصادية. ويماثل هذا الكفاح، وتعادل هذه التضحيات، ما يبذله أبناء هذا الشعب في سبيل تحرير أرضهم ومواردها من قبضة من يعتدي عليها في سياق آخر.
لغة تعود إلى أصلها المفقود
اللغة المعنيّة هنا، هي ما يُطلق عليه اللغة المصرية القديمة، المكتوبة بالأبجدية المسمّاة ــ حسب اللفظ اليوناني ــ باسم "الهيروغليفية". فهذه اللغة تعرّضت لمحو هويتها العربية حتى بات أهلُها أنفسهم يجهلون عروبتها، وأطلق عليها الباحثون الأجانب اسم "اللغة الفرعونية"، وشكّكوا زمناً بهويّتها الحقيقية، كما شكّكوا تِبعاً لذلك بعلاقات بلدٍ مثل مصر بمحيطه العربي، وخاصة بجزيرة العرب، وأمعنوا في هذا إلى درجة إشاعة القول بأن مصر تنتمي إلى أوروبا عقلاً ومصيراً ومصلحة، ولا تنتمي إلى محيطها الطبيعي. وشاعت أمثال هذه الأقوال إلى درجة أن أصبحت فيها من المسلَّمات التي لا تقبل النقاش.
بالطبع، كان لمحو الهوية هذا آثار سلبية على كلّ صعيد، يمكن التعرّف عليها في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، إلا أنّنا سنقصر حديثنا هنا على الجهود التي بذلها علماء مصريون كان لهم الفضل في الكشف عن هذا المحو الذي تعرّضت له هويّة لغتهم، وعلى رأسهم رائدٌ لا يَعرف عن منجزاته وكفاحه إلا القليل من المختصين، هو أحمد كمال باشا (1851- 1923).
أُهملت أعمال أحمد كمال باشا ولم يُنشَر منها إلا جزء
صحيحٌ أن ما قدّمه هذا الرائد ــ الذي تفوّق في الدراسات الآثارية المصرية، لغة وحضارة، وقرأ نقوشها الهيروغليفية قراءةَ خبير عالم ومعنيّ قبْلَ غيره بهذا الشأن ــ تمثل في عدّة كتب ومحاضرات وتعاليم بثّها خلال عمله في التنقيب عن الآثار وتولّيه أمانة "متحف القاهرة"، إلّا أنّ أعظم منجزاته كان اكتشافه عروبةَ لغة مصر القديمة عبر قراءة نقوشها، وإصداره لمعجم "الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية" (1885)، الذي وضع فيه ــ لأوّل مرة في تاريخ تأليف معاجم هذه اللغة ــ الكلمات العربية المقابلة للكلمات المصرية القديمة، وعكوفه بعد ذلك طوال عشرين عاماً على وضع قاموس لهذه اللغة مكوّن من 22 جزءاً. ولعلّ ما حدث لهذا القاموس يُمكن أن يلخّص الكفاح المرير الذي كان على هذا العالِم خوضه انتصاراً لما تكشَّف له، ووجد معارضة شرسة من قِبل الموظفين الأجانب (فرنسيين وبريطانيين) الذين كانوا يحتكرون العمل في مضمار عِلم ما يُدعى المصريات، أي كل ما يتعلق بمصر القديمة وآثارها، تدريساً وإشرافاً على المتاحف والتنقيبات والمطبوعات.
قبل وفاته بوقت قليل، تقدّم أحمد كمال باشا إلى وزارة المعارف لطباعة القاموس، فأحالته إلى مدير المطبوعات البريطاني، فأحاله هذا من جانبه إلى بريطاني آخر يشغل منصب كبير أمناء مصلحة الآثار ليبدي رأيه، وأشرك هذا معه اثنين، أحدهما فرنسي والآخر أميركي. وجاء رأي هؤلاء برفض نشر القاموس، باستثناء الأميركي الذي لم يجد سبباً لعدم نشره.
ولم تهتمّ الوزارة بنشره، وتمّ إهمال عمل على جانب كبير من الأهمية كان نشرُه ليدحض نظريّات الاستشراق والتغريب التي محت هوية مصر العربية، وأبعدت أصل المصريين عن كل ما يمتّ إلى العروبة بِصِلة. عملٌ كان ليكشف عن عروبة مصر على امتداد تاريخها الطويل. طوى النسيان هذا القاموس وصاحبَه لمدّة تقارب ثلاثة أرباع القرن، إلى أن أُتيح لجزء واحد منه أن يرى النور عام 2002، بل ولم يعد أحدٌ، حتى في مصر، يتذكّر أن هذا العالم الآثاري أصدر أوّل معجم للمصرية القديمة (الفرائد البهية...).
تطبيقات لغوية
وبالعودة إلى صاحب هذا الاكتشاف، الذي يكاد يكون مجهولاً في الأوساط الثقافية العربية، نجد أنّه عرض تجربته في التعرّف على الصِّلة بين اللغتين، وفي استعادة الهوية الحقيقية للُغة مصر القديمة، في عدّة مناسبات، كان أكثرها وضوحاً في محاضرة له ألقاها في "مدرسة المعلمين الناصرية"، ونشرت مقاطعَ مهمّة منها مجلّةُ "المقتطف" في العدد رقم 3، بتاريخ 1 آذار/ مارس 1914.
جاء في هذه المحاضرة قوله: "اعلموا أيها السادة أن كثرة مطالعتي في اللغة المصرية القديمة ــ منذ كنتُ في الثامنة عشرة من عمري إلى أن بلغتُ الستين ــ مهّدت لي سُبُل الوصول إلى اكتشاف غريب مفيد، ألا وهو أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة من أصل واحد وهو لغة 'الأعناء'، إن لم تكونا لغة واحدة افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال كما حصل في كل اللغات القديمة. وكنتُ قبل الآن أدرس اللغة المصرية على الأسلوب الذي تلقيته من أستاذي هنري باشا بُرُكش في مدرسة خاصة على نفقة الحكومة، ولبثتُ مقتفياً منهاجه كغيري من الأثريين إلى قبل الآن بثماني سنوات. وفي أثناء ذلك كنتُ أرى للألفاظ العربية مثيلاً في اللغة المصرية القديمة، وكنتُ أدوّنها شيئاً فشيئاً حتى كثرت. وأخيراً اطّلعتُ على مقالة أدرجها المعلّم نافيل، الأثري، في المجلّة المسمّاة Recueil des Travaux، أبان فيها، بناءً على النص المنقوش في الدير البحري من زمن الدولة الثامنة عشرة، أن المصريين الأوَل اشتهروا باسم الأعناء (ومعناه، في العربية، أقوامٌ من قبائل شتّى) ولم يذكر النصّ من أين جاؤوا، ولكنّ المدن التي أسّسوها باسمهم هذا في ما فوق طيبة من الجنوب إلى ما بعد منف، تدلّنا على أنهم استعمروا تلك الجهة في بدايتهم ثم كثروا وانتشروا".
لو نُشرت أعماله في وقتها لدحضت نظريّات الاستشراق
ثم يصف المُحاضِر ــ بناءً على النص المنقوش ــ الجهات التي هاجرت إليها فرقٌ من هذه القبائل واستوطنتها. ففريقٌ هاجر إلى جهة القيروان وتونس والجزائر، وفريق ذهب إلى أواسط أفريقيا، وثالث إلى بلاد الصومال ومنها عبر البحر الأحمر إلى بلاد العرب، وانتشر فيها وسار من هناك إلى جنوب فلسطين. ويستنتج أن الأعناء "سكنوا تلك الجهات الشاسعة... وبثّوا فيها لغتهم فصارت لغةً أصليّة للبلاد".
ويتحدّث بعد ذلك عن طريقتين اتّبعهما الغربيون في حلّ رموز هذه اللغة القديمة، منذ 120 سنة، فيقول إنّهم "ذلّلوا مصاعبها بمقابلة ألفاظها بالقبطية أو بالعبرية أو بالعربية أو بالآرامية أو بسياق الكلام... وفرضوا ألفاظاً متضاربة، فالألمان استخدموا طريقة في القراءة تخالف الطريقة الفرنسية، وكلاهما وضع اللفظ على قدر الاستطاعة، مع علمهم أن حقيقة اللفظ واللّهجة القومية لا تزال مجهولة. ولم ترُقْ في نظري كلتا الطريقتين، لذلك اتّخذتُ لقاموسي، الذي أنجزتُ منه إلى الآن ثلاثة عشر مجلداً، طريقة سهلة وهي تحليل الكلمة إلى أجزائها". ويضيف: "إلّا أنني لمّا وقفتُ على أصول اللغتين العربية والمصرية وعلى ما فيهما من القلب والإبدال، أمكنني الخوض في مقارنتهما بالبراهين القاطعة التي تُظهر لنا حقائق المعاني وتبيّن لنا فحوى النصوص التي وُضعت. لا أفتخر بذلك ولا أبرّئ نفسي من الغلط في مثل هذا المجال الواسع، لكنني سلكتُ طريقاً أضمَنَ وأرقى من غيره، وهو تطبيق اللغة المصرية القديمة على اللغة العربية مع بيان القلب والإبدال في بعض كلماتها اقتداءً بالمصريين أنفسهم، حتى تظهر لنا حقيقة المعنى لوجودها محفوظة في اللغتين".
ثم نجد هذا العالم الأثري يواصل بعد سنوات، في مقالة أخرى له في "المقتطف" (العدد رقم 23، أيلول/ سبتمبر 1921) تطبيق منهجه الذي أوصله إلى اكتشاف الهوية العربية للمصرية القديمة، سواء كانت اللغتان من أصل واحد أو أن إحداهما أصل الأخرى، فيخالف مخالفة كلّيّة ــ تحت عنوان "في براءة القرآن الشريف عن بعض الألفاظ الأعجمية" ــ ما درج على قوله مفسِّرون مِن أنّ في القرآن الشريف كلماتٍ غير عربية، وأيضاً استناداً إلى ما تكشّف له.
القلب والإبدال يكشفان عن معانٍ مشتركة بين اللغتين
يقول: "اللغة المصرية، أي لغة قبائل الأعناء التي سكنت مصر وما جاورها من الأقاليم، هي أصل اللغة العربية بلا مِراء، بنصّ النقوش المذكورة آنفاً (نقوش الدير البحري)، وقد نزل القرآن الشريف بهذه اللغة العربية ونصَّ على ذلك نصّاً صريحاً في آيات كثيرة". ثم يبدأ بتحليل الكلمات الواردة في القرآن، والتي جمعها الشيخ حمزة فتح الله وقال إنها أعجمية وطبَعها بأمر "نظارة المعارف العمومية" عام 1902، فيخالف قول هذا الشيخ، مبيّناً "أنها عربية لورودها في اللغة المصرية القديمة التي هي أصل العربية". ويُظهر بالتحليل أن كلمات مثل "أكواب" و"أباريق" و"سرى" و"هيت" و"رسّ" "وقط" و"يم" وغيرها، هي كلمات عربية، إمّا وردت في "القاموس المحيط" أو ورد جذرٌ لها واشتقاق منها، أو اكتشفت في النقوش المصرية التي هي الأصل. وفي كلا الحالين جزمَ بأنْ لا حظَّ لهذه الكلمات من العجمة.
كل هذا الذي ذكرناه ــ من استعادة هوية اللغة المصرية القديمة، وتأليف معاجم لهذه اللغة تضع مقابلاً عربياً لكلماتها، بدل المقابل الأجنبي كما جرت العادة، منذ أواخر القرن التاسع عشر ــ طواه النسيان والإهمال، ولم يبدأ الحديث عن الهوية المستعادة إلّا بعد نحو نصف قرن، مع الأكاديمي عبد المحسن بكير وإصداره لكتابه "قواعد اللغة المصرية في عصرها الذهبي" (1954). ولكنْ حتّى هذا الباحث الكبير لم يأتِ على ذكر الرائد أحمد كمال باشا ومعجم "الفرائد البهية..." أو "القاموس" واكتشافه للهوية العربية للغة المصرية القديمة، إذ نجده يروي "اكتشافه" في مقدّمة كتابه الآنف الذكر بهذه الكلمات: "عندما كنتُ أتعلّم اللغة المصرية القديمة في جامعة القاهرة، كنت أستعين في معظم الأحايين بكتاب 'النحو المصري القديم' من تأليف غاردنر، وكنتُ أرى بوضوح أن هناك أوجه شبه كثيرة بين هذه اللغة وبين اللغة العربية، وكانت نتيجة هذا الشعور أني انتهيتُ مع نفسي إلى أن اللغة المصرية القديمة إنّما يجب عند دراستها في مصر أن تُقارَن بالعربية التي حلّت محلّها عندنا وأنْ تُقَرَّب منها ومن قواعدها".
بعد ذلك نجده يعدّد أهم الأشياء التي تتفق فيها اللغتان، فيؤكّد ــ من دون أن يقصد ــ صحّة ما توصل إليه أحمد كمال باشا قبل أكثر من نصف قرن تقريباً، وهي على النحو التالي: 1. توقّف بُنية الكلمة على الحروف الساكنة فحسب. 2. بعض اللواحق الصرفية واحدة في اللغتين. 3. الضمائر المتّصلة: كاف الخطاب للمفرد ونون التكلّم للجمع. 4. حرف التاء للدلالة على التأنيث. 5. وجود صيغة المثنى في كلتا اللغتين. 6. التشابه بين كثير من الألفاظ واشتقاقاتها. 7. تقدم الفعل على فاعله في تركيب الجملة الفعلية.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين