أحمد دياب: تمثيلات العرب في المخيال الفلسطيني

30 ابريل 2022
أحمد دياب (إلى اليمين)، جانبٌ من السيمنار
+ الخط -

طرح أحمد دياب، أستاذُ الأدب والسينما العربية الحديثة في قسم دراسات الشرق الأوسط بـ "جامعة كاليفورنيا" في بِركلي، مسألةً قلّما جرى التطرُّق إليها، عن مكان العربي في المخيال الفلسطيني، عكس التيار الواسع الذي قام خطابُه عربياً على مركزية القضية منذ الحرب العالمية الثانية، بوصف فلسطين مجازاً للعدالة ورمزاً لمظلمة كبرى بحقّ العرب.

جاء ذلك في سيمنار "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، يوم الأربعاء الماضي، وكان عنوانُ محاضرة دياب "من حميم إلى آخر: البحث عن العربي في المخيال الفلسطيني".

تناول الباحثُ، في محاضرته، قضايا الهوية والغيرية، من خلال مقاربة تتناول الفلسطينيّين بوصفهم منتِجي سرديات، بدلاً من أن يكونوا مواضيع للسرد العربي. وعرَض مجموعة نصوص فلسطينية مفصلية من النثر، والسينما، والشعر، أبرزَ من خلالها تشكُّل تصوّرات ديناميكية متعدّدة عن العرب.

وقد ركّز في عرضه، أساساً، على فترة الانتداب البريطاني، من خلال صورة العربي في بعض أبرز الأعمال الأدبية والسينمائية فيها، لا سيما منها أعمال إبراهيم الدبّاغ، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، ونجاتي صدقي. كما سلّط الضوء على قضايا الهوية والغيرية من خلال كتاب إدوارد سعيد، "بعد السماء الأخيرة"، الذي هو بصدد ترجمته إلى اللغة العربية.

يتناول الفلسطينيّين بوصفهم منتِجي سرديات لا كموضوع للسرد

أحدُ تجلّيات الفلسطيني عربياً، تبعاً للقضية السياسية الاستعمارية، هو الفلسطينيُّ في صورة اللاجئ، أو بالأحرى اللاجئة "مهيضة الجناح في مجازٍ جنوسي (جندري)، سيظهر في الإعلام وفي السينما مبكّراً" وفق المثال الذي استحضره الباحث عبر الفيلم المصري "فتاة من فلسطين" عام 1948.

مقابل هذا، يرى دياب أن ثمّة "مزعمة فلسطينية منبثقة من علاقة جدلية مع الأُولى العربية، تقول بوجود رغبة فلسطينية في أن يهبّ العرب لنجدة فلسطين، أو إنقاذها إذا ما اقتربنا من أدبيات حرب النكبة بما فيها 'جيش الإنقاذ'، وهذه الرغبة لم تتحقّق". استعان الباحث في أطروحته هذه بنظريات طوّرها علماء النفس، وخصوصاً جاك لاكان، بشأن المخيال والرغبة والتنصّل واللاشعور.

تستند المفارقة التي يلاحظها دياب ويدرسها إلى ما يراه لاكان؛ إذ يقول إنّ "الرغبة التي لا تتحقّق لا تفنى بل تقوى وتشتدّ". والحال لدى الفلسطيني أنه يُصرّ على تكرار نداء "يا عرب" مع تتالي الخذلان العربي، بل يُحوّله "من منجد إلى مُتواطئ أو متآمر".

يعرف الباحث أنّ تمثيلات العرب في المخيال الفلسطيني، أو العكس، وقعت تحت تحوُّلات كبرى، فليس الفلسطينيُّ دائماً هو اللاجئ، كما أنّ الشتات التراجيدي داخل البلاد وخارجها أوجد مخيالات فلسطينية عديدة، تبعاً للظرف التاريخي الذي عاشه الفلسطيني تحت الحكم الاستعماري مباشَرةً، أو في بلدان عربية ذات هويات وطنية، وتحالفات سياسية تناقضت فيما بينها أكثر ممّا تناقضت مع عدوّها الأول.

لكلّ هذه التحوّلات خلال أربعة وسبعين عاماً منذ "النكبة"، ارتأى دياب أن يسلّط الضوء أكثر على صورة العربي، في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد بدأت تتشكّل منذ بدايات القرن العشرين صورةٌ قاتمة لمستقبل فلسطين، مثلما بدأت تتشكّل صورة "العربي المنقذ".

لا يمكن الحديث عن خطاب فلسطيني عام في غياب مؤسّسات تنتجه

من مطلع القرن الماضي، يستعيد الباحثُ قصيدةً مبكرّة لـ إبراهيم الدباغ (1888 - 1946) يقول فيها: شبح الرحيل أما تكف عن الأذى/ شبح الرحيل أما تني تغشى لي؟

يطالع دياب نماذج شعرية لأبرز الأسماء الفلسطينية تحت الاحتلال البريطاني: عبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، وأبو سلمى، وهي أصوات تكفّلت، مع غيرها، ببناء خطاب فلسطيني عن الذات ومكانة الفلسطيني في محيطه العربي.
هذه قصيدة عبد الرحيم محمود التي ألقاها بحضور الأمير سعود بن عبد العزيز عام 1935 لدى زيارته فلسطين، قبل أن ُيصبح ملكاً على السعودية وفيها:

يا ذا الأمير أمام عينك شاعرٌ
ضمّت على الشكوى المريرة أضلعُه
المسجد الأقصى أجئتَ تزورُهُ
أم جئتَ مِنْ قبل الضياع تودّعُه؟

ولم تعدم صورةُ "المخلّص العربي" المأمولةُ من عتاب ذي مسحة ساخرة على لسان إبراهيم طوقان (1905 - 1941) في قصيدةٍ بعنوان "عتاب إلى شعراء مصر":

كم بلاد تهزّكم ليس فيها   لكم جيرةٌ ولا إخوانُ
خطبُنا لا يهزّ شوقي ولكن   جاء روما فهزّه الرومانُ
خطبُنا لا يهزّ حافظ إبرا   هيمَ لكن تهزّه اليابانُ
ما لمطران يا فلسطين شأنٌ   بك لكن له بنيرونَ شانُ

ومرّ الباحثُ على مثال آخر، لك أن تختار فتحسبه ضرباً في فيافي الخيال أو حقيقةً ترى الغد بالعين المجرّدة، وهو قصّة لنجاتي صدقي نُشرت في مجلّة "الرسالة" المصرية عام 1946، أي قبل التقسيم وقبل النكبة، وعنوانها "أخيال أم حقيقة؟ فلسطين بعد ربع قرن!".

في هذه القصة يتخيّل صدقي فلسطينَ بعد 25 عاماً، أي في عام 1965، عبر أبٍ يمتحن ابنَه في درس التاريخ، وتَظهر فيها صورةُ عربي يدافع عن التقسيم وآخر يرفضه، بل إنّ إحدى شخصيات القصّة نقلت خبر أنفاق الكيان الصهيوني: "روى السيّد الملّاح خبر اكتشاف قوّة الحدود العربية نفقاً نقبه اليهود تحت الحدود، كانوا يهرّبون منه البضائع المصنوعة في تل أبيب".

قبل النكبة بعامين، كانَت قصّةُ صدقي تستقي من خضمّ مأساوي يرسم مآلاته بوضوح على الأرض، وتُورِد على لسان شخص: "هكذا فلا تنقضي حقبة من الزمن حتى يكون العرب قد أقاموا في فلسطين مجتمعاً عربياً راقياً فاضلاً تتضاءل إزاءه أخطار الدولة اليهودية، ويصير مصيرُها إلى التلاشي أو إلى البقاء في الشرق كما هي إمارة تنشتاين في الغرب". بعد خمسة وعشرين عاماً من نبوءات القصة، كانت نُذُر النكسة على الأبواب، وبعدها بعقود كانت الأنفاق فلسطينيةً في غزّة لا في دولة الاستعمار، وهذه صُوَر يقول الكاتب إنه يبحثها بالتفصيل في كتابه المقبل.

وفي إجابة عن سؤال بشأن استدعاء نماذج سابقة على حساب تحيين صورة العربي في المخيال الفلسطيني لاحقاً وحتى اللحظة الراهنة، قال دياب إنّ المؤسّسات التي أنتجت الخطاب العام في مجتمعاتها إبان القرن العشرين هي مؤسّسات دولة، إذ هناك منهاج مدرسي ومؤسّسات مركزية "وكلُّ أبناء هذا الشعب عليهم أن يمرّوا بعمليات أدلجة وتوعية وتجهيل تخلق أبطالهم ووحوشهم الوطنيّين أو القوميّين. وهذا متعثّر في الحالة الفلسطينية، إذ كيف يمكن الحديث عن خطاب فلسطيني عام في غياب مؤسّسات تنتجه".

وعليه، ركّز الباحث على النصوص التي ثبت صداها عند الفلسطينيّين في مختلف تجمّعاتهم، مثل التي أنتجها غسّان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش، رجوعاً إلى فلسطينيّين مؤسّسين في إنتاج خطابهم العام.

ليست صورة "المخلّص العربي" نتاجاً أوحد. لقد كانت واضحة قبل النكبة، لكنه يلاحظ الآخرَ العربيَّ غائباً عند لحظات الانكفاء الفلسطيني على الذات، ومثال ذلك الساطع "رجالٌ في الشمس"؛ حيث الأحداث كلُّها تجري بدءاً من البادية الأردنية حتى البصرة وأخيراً الكويت، وضحاياها جميعُهم فلسطينيون على يد مَن نكتشف أنه مهرّب فلسطيني. هذا الانكفاء يقع حتى عندما يتخيّل الفلسطيني منفاه العربي.

وبهذا يستعين أحمد دياب مرَّة جديدة بـ لاكان القائلِ إنّ الآخر يتشكّل بالذات عند عدم تحقيق الرغبة في أن يُدرك الآخرُ وجوده، بوصفه تفسيراً مناسباً للشرخ الذي ينتج فلسطينياً وينتج عربياً آخر.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون