لكلِّ شريانٍ يرسمه أبو زيدون حنوش في مرسمه القابع بالقرب من مَحَطَّة القطارات أوتوتشا، في العاصمة الإسبانيّة مدريد، وريدٌ له في الكوفة. فلوحته جسدٌ تتقاطع فيه المسارات الحميميّة نحو الداخل والخارج، وفي هذه الشبكة المعقّدة من المسارات والتقاطعات والطرق تتكوّن اللوحة، ولكنها ليست اللوحة التي تعرفها العين، بل اللوحة التي تنبع من الخيال، من خيوط الضوء، من الحلم الثالث، من الذاكرة، من المعنى، ومن الشرق والغرب في آن معاً.
يعملُ أبو زيدون حنوش (الكوفة، 1958) حاليّاً كأستاذٍ للفن الحديث في العديد من الجامعات ومعاهد الفنون في إسبانيا. قبل أن يبدأ ترحاله خارج أرضه الأم، العراق، درس الفنون الجميلة في بغداد، ثم غادر إلى إسبانيا، مع بداية ثمانينيات القرن المنصرم، حيث تابع دراسته للفنون الجميلة في مدريد، ليحصل بعد ذلك على شهادة الدكتوراه من "جامعة كومبلوتنسي بمدريد".
يعيش أبو زيدون حنوش اغتراباً شبيهاً بذاك الاغتراب الذي يعيشه المبدعون والشعراء عموماً، ولا نعني بذلك اغتراب المكان والأحداث الجارية، بل الاغتراب الكياني القابع في الأعماق. إنّه، بشكلٍ أو بآخر، اغترابٌ يرتبط بجذور الشخصيّة الحضاريّة وتعبيراتها. هكذا، لم تفارق الموضوعات العربيّة الإسلاميّة لوحات حنوش، على الرغم من اندماجه الكامل في الثقافة الإسبانية، لغةً، فناً، وحيّاةً. لوحاته، ضمن هذا المعنى، ستكون ــ جوهريّاً ــ ممارسةَ تمازُج ثقافيٍّ تتواصل فيها العناصر والمكوّنات الشرقية والغربية وتتحدّث بلغةٍ مشتركة، لغة تتجاوز الحدود السياسيّة والجغرافيّة، لغة تتجاوز الإيديولوجيات والمعتقدات، لغة يكاد أن يكون لها اسم واحد فحسب: الحرّية.
اللوحة عنده ممارسة كيانية للوجود أو شكلٌ من أشكاله
يَصدر أبو زيدون حنوش، في فنّه، عن حدسٍ يرى فيه أنَّ الواقع المحيط، والطبيعة المجرّدة والغامضة، لا يمكن الكشف عنهما إلّا من خلال اللوحة. كأنّما الصورة تأتي قبل الأشياء، وهذا ــ جوهرياً ــ يتعارض مع الحدس العربي الإسلامي، إن صحّ التعبير، لا سيّما أنّ الثقافة الإسلامية هي ثقافة لغة وكلمة، وليست ثقافة صورة ولون. هكذا يعطي حنوش للوحة دوراً رائداً: إنها ممارسة كيانية للوجود، أو هي شكل من أشكال الوجود، بها يظهر الإنسان بما هو، وبها يتأسَّس ويتحقّق.
لا تنسخ لوحات الفنان العراقي الواقعَ، لا تحاكي الطبيعة وأشكالها، لا تقول عن الشيء، بل تقول الشيء، وتحاول رؤية ما لا يرى. إنّها تجاوزٌ للطبيعة وخلق عالم من الأشكال المحضة لا يراد منها إلا الجوهر، فالأشياء المادية، والأجساد الأنثوية، والوجوه الذكوريّة، والأحصنة التي تملأ فضاء كل لوحة، ليست إلا فوضى أو زوبعة زائلة، إنها بشكلٍ أو بآخر، رماد متبعثر يتطاير مع غبار الطلع في فضاء القماش، ومن هذا الرماد تُلتقط إشارة واحدة فحسب، إشارة النار، إشارة البصيرة لا البصر.
لوحة أبو زيدون حنوش هي لوحة طريق إلى لا قرار، لوحة استكشاف واستشراف، إنّها، في أغلب الظن، نقطة إشعاع تبدأ في نفس الفنان، تعبر الزمان والمكان؛ إنها نقطة عابرة للتاريخ والحضارة، تنطلق دائماً باتجاه واحدٍ: اللامرئي. هكذا يُحلّ الفنان مكان العالم المرئي وعلاقاته ــ تجريدياً ــ عالماً غير مرئيّ، لكنه متحّدٌ بالعالم المألوف، ليس عبر محاكاة الأشياء، بل من خلال العلاقات التي تبنيها الألوان والأشكال في ما بينها.
أمام مثل هذا البناء الفنيّ، دائماً ما يشعر المرء بأنه يرى عالماً مختلفاً عن ذاك الذي يعرفه ويعيش فيه، دائماً ما يشعر ــ فيما يتأمّل هذا العالم ــ بأنه لا يرتوي، بأنه مدفوعٌ بلا نهاية إلى اكتشاف تخوم هذا العالم، وأنه في رحلة استكشافه سيتعرّف على مخلوقات جديدة، على علاقات تُنسج للمرة الأولى بين الخطّ والشكل، الضوء والظل، المادة والكتلة، اللون والعين، الجسد والفراغ؛ وفي هذا ما يُباعد بين اللوحة والمألوف، ويجعل منها تجريداً يعطي للواقع هوية واحدة فحسب: هوية التلاشي.
في هذا كلّه، توجد في لوحات حنوش شفافية يتراءى وراءها عالمان: عالمٌ ذهنيٌّ وآخَر بصريٌّ، وبينهما هشاشة الحبِّ والرغبة والشهوة. من هنا، ليس للّوحة زمنٌ تاريخيُّ، ليس لها أفقٌ تتابعيٌّ أو رياضيٌّ، الزمن فيها انبجاسٌ وانفجار، تتدفّق فيه الأشياء والعناصر والألوان بشكل عموديّ، وتترابط إيقاعياً، في ما يشبه التموّج الذي لا يهدأ.
يتراءى في كلّ واحد من اشتغالاته عالَمان: ذهنيّ وبصريّ
من هذا المحيط ينبثق الفن لدى أبو زيدون حنوش، فاللوحة، بالنسبة إليه، بُعدٌ بنائيُّ من الأبعاد التي تتحرّك فيها هوية الإنسان والمجتمع؛ إنها، بشكل أو بآخر، البُعد الأول، البعد الرائي والرمزي، فهي ليست حقيقة أو باطلاً، إنها دلالة واحتمالات، إنها أفق مفتوح على التساؤلات، وليس في هذا الأفق أيُّ جواب.
يحرّر أبو زيدون حنوش مخلوقاته وأشكاله الفنية من صفة القداسة، وهذه مغامرة ليست سهلة، غير أن المغامرة الكبرى التي يخوضها في كل لوحة هي مغامرة تحرير الكائن الإنساني من الداخل ومن الخارج، وهذا شأن كلّ فن جادّ يمارس مشروعاً تحريرياً شاملاً، ونقصد بذلك: التطابق بين الطاقة الداخلية التي تنبض في الجسد الآدمي، الطاقة الباطنية أو اللاشعورية، والطاقة الخارجية الثورية التعبيرية الخلاقة. من أجل هذا المشروع يسخّر الفنان العراقي تقنية الاتجاهات: الاتجاه نحو الداخل والاتجاه نحو مقابله الخارج؛ الاتجاه نحو الشرق، ونحو مقابله: الغرب. كل هذه الاتجاهات تتآلف في فضاء اللوحة، تعبيراً عن الطاقة الإبداعية الكامنة في ذلك الكائن الذي يُسمّى الإنسان.
ثمة نوعان من الفن: فنٌّ يمسك بذيل الحياة ويركض وراءها كي يلحق بها كل يوم، فهو أقلّ منها، لا يصل إلى مستواها؛ وفنٌّ آخر يضمّ الحياة، يُحيط بها، ويتجاوزها، فهو أكثر منها، والحياة نفسها لا تصل إلى مستواه. لا شك أنَّ الفن الذي يبدعه أبو زيدون حنوش يحضن الحياة فيما هو يتجاوزها.