آن للنكبة ألا تستمر: لمحات تاريخية لإنارة مشروع التحرير

18 مايو 2021
عمل لـ أنس يمان (تركيا)،2021
+ الخط -

تزامن إحياء الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة، هذا العام، مع عدوان صهيوني جديد على الشعب الفلسطيني في غير مكان، من القدس - حيث كانت الشرارة الأولى لأحداث حيّ الشيخ جرّاح - إلى غزة المعرّضة للقصف اليوميّ، مروراً بكل المدن الفلسطينية المحتلة. ألا يؤكّد ذلك أن "النكبة" ليست مجرّد حدث تاريخي يُستعاد لشحذ الضمائر والتذكير بالقضية، بل إنها لا تزال واقعاً ملموساً يتجسّد على الأرض. فكيف تتجدّد "النكبة" من عام إلى آخر؟

سؤال حملته "العربي الجديد" إلى باحثين عرب في التاريخ المعاصر؛ الفلسطيني بلال محمد شلش، والمصري عاصم الدسوقي، والتونسي عبد الرؤوف سعيد، في محاولة لتفكيك العوامل التي تتيح لـ"النكبة" أن تعيد إنتاج نفسها، ومن ثمّ استقراء شروط تجاوزها بما يُوفّر إشارات ضوء متنوّعة في مقاومة المشروع التدميري لدولة الاحتلال، وهاهي تترنّح أمام إرادة الشعب الفلسطيني.


عاصم الدسوقي

عندما أعلن بن غوريون، ليلة 15 أيار/ مايو 1948، قيام حكومة إسرائيلية "مؤقتة"، أي في اليوم السابق على انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، اندلعت الحرب بين الدول العربية و"إسرائيل"، ومع الهزيمة العربية ساد مصطلح "النكبة".

أسرعت، وقتها، الحكومة الأميركية بالموافقة على إعلان بن غوريون نظراً للتحالف الديني بين اليهود وبين الإنجيليين؛ المذهب السائد في الولايات المتحدة الأميركية. 

كانت مصر قد تولت قيادة الجيوش العربية في حرب 1948 ورغم الهزيمة لم تعترف بـ "إسرائيل"، واشتد الموقف بقيام "ثورة 52" ومواقف جمال عبد الناصر بشأن تحرير فلسطين. حتى بعد هزيمة 1967 حافظت مصر على مواقفها، وقد تلقى عبد الناصر عرضاً أميركياً في 1968 بانسحاب "إسرائيل" من سيناء دون قتال في مقابل الاعتراف بـ"إسرائيل" وعقد معاهدة معها، فرفض ناصر وصك شعاره: ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.

وقف الحديث عن "النكبة" لا ينبغي أن يتم إلا بتحرير فلسطين

وبوفاة عبد الناصر (أيلول/ سبتمبر 1970) تمكنت أميركا من تحقيق الهدف المشترك الإنجيلي-الصهيوني من خلال أنور السادات فعقدت اتفاقية "سلام" مع "إسرائيل" (آذار/ مارس 1979). 

وعلى مدى السنوات التالية وحتى الآن نجحت "إسرائيل" بتأييد أميركي في جر قيادات العرب للجلوس معها تحت عنوان "التطبيع"، والعمل على التخلص من معاداة "إسرائيل" باصطناع شعارات "هلامية ووهمية" مثل "الديانة الإبراهيمية" حتى ينسى العرب والفلسطينيون بلادهم وأرضهم ويقبلوا بالأمر الواقع، أي تأبيد هذا الواقع، وجعل الحدث التأسيسي للنكبة مستمراً في نتائجها حين لا تبحث الضحية عن تغيير مساراتها.

إن وقف الحديث عن "النكبة" لا ينبغي أن يتم إلا بتحرير فلسطين، أو على الأقل بإعلان دولة فلسطين طبقاً لتوصية الأمم المتحدة، وهذا ما لا ترضاه "إسرائيل" بل تأمل من فلسطينيّي الضفة وغزة أن يدخلوا تحت سيطرتها، وها أن الأحداث الأخيرة تثبت استعصاء ذلك، لنفهم أن هناك الكثير من الوسائل لوقف تجدّد "النكبة" بما هي اختزال رمزي لذهاب الصهيونية أبعد في مشاريعها.

الصورة
عاصم الدسوقي

* مؤرخ مصري من مواليد 1939، من أبرز مؤلفاته: "العرب والحرب العالمية الثانية"، و"الصهيونية والقضية الفلسطينية في الكونغرس الأمريكي 1943 - 1945"، و"كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري"


بلال محمد شلش

ظلالُ المعركة المستمرة - في لحظة ذروتها الجديدة - تُبرز أوجهًا مختلفة للنكبة. فالمحو ما زال مستمرًا، وما معركة الشيخ جرّاح إلا بعض مظاهره. لكن مقابل هذا المحو المستمر يومًا بيوم على مدار قرن تقريبًا، برزت مقاومة مستمرة أيضًا يومًا بيوم، يرثها جيل فجيل، أبرزت فشل المشروع الاستعماري في تحقيق غايته النهائية، فبقيت النكبة حدثًا مستمرًا. 

الإضاءة المعرفية على هذا الوجه المختلف، واستمرارية النكبة مع استمرارية المقاومة، وعجز المشروع الاستعماري عن التحقق، نقاط من الضروري التأكيد عليها اليوم في ضوء المحاولات الاستعمارية الدائمة لتطبيع المشروع الاستعماري في محيطه الإقليمي.

أرى أن المقاومة المستمرة، التي أعاقت بكل تأكيد تحقق المشروع الاستعماري عبر المدى الطويل، لم تثمر فقط حفظًا للحقوق، والتأكيد عليها، فما لا يُدافع عنه يُتنازل عنه، وإنما أثمرت في وقت ما قبل سبعة عقود حفظًا لبعض الأرض وإن كان إلى حين، وأثمرت بعد ستة عقود تحررًا لبعضها الآخر، لتصير خاصرة مؤلمة كحد أدنى في وجه المشروع الاستعماري.

ما يجري الآن يؤكّد على محدودية تحقق المشروع الاستعماري

لحظة الذروة الجديدة في معركة المقاومة المستمرة، بقدر ما فيها من ألم، إلا أنها أكّدت من جديد على محدودية تحقق المشروع الاستعماري، وعجزه عن فرض مشاريعه المختلفة. ويمكن الانطلاق من معركة الشيخ جرّاح كنموذج لذلك، فالحيّ الذي ابتدأ كمؤشر على تقدم حضاري كانت تشهده فلسطين أواخر العهد العثماني، واستمر رغم سيطرة المشروع الاستعماري البريطاني على فلسطين، انتهى في العام 1949 وبعد معارك طويلة على مدار عام ونصف العام، حفظت الحيّ وأرضه، إلى منطقة حدودية شهدت معارك يومية بين الحربين، وتحوّل أيضًا إلى منطقة، سعت الأطر الداعمة لتطبيع المشروع الاستعماري الصهيوني في المنطقة لاستغلالها لتكون نموذجًا لمشاريع التوطين والنسيان.

مضى الزمن وتجددت الهزيمة في حزيران/يونيو 1967، ومضى الزمن ليتحوّل الحيّ إلى واجهة مواجهة لمشروع المحو المستمر، وكذلك أصبح واجهة مقاومة مولدة، أبرزت عجز دولة المستعمرين عن التحوّل لدولة طبيعية، فظلت دولة غاصبة منزوعة الشرعية.

وكما يبدو فإن لحظة الذروة الجديدة لمسيرة المقاومة عبر المدى الطويل، زرعت في النفوس، وستورث، أفقًا جديدًا، يتوجّب أن يُعتنى به معرفيًا من الإنصات للناس بصوتهم، ولفظهم، وفهمهم، وفعلهم، ضمن أفق متجاوز للجغرافيا الاستعمارية، ومؤمن بإمكانية وضرورة التجاوز. شعار المرحلة جرى التعبير عنه بمقولة: "آن للنكبة ألا تستمر".

الصورة
بلال شلش

*باحث فلسطيني من مواليد 1987 ضمن مشروع "توثيق ودراسة القضية الفلسطينية" الخاص بـ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". من مؤلفاته كتاب "يافا دمٌ على حجر. حامية يافا وفعلها العسكري" (2019).


عبد الرؤوف سعيد 

استندت "الدولة الصهيونية" إلى أساس العنف كأيديولوجيا وممارسة، وهي في ذلك تتفق مع النازية في تصوّرها للدولة كائنا ينمو ويمتد لضمان البقاء. وما زال الخط الصهيوني العام يتخذ من العنف والعنصرية سبيلاً وحيداً لحل كل مشاكله. ولقد كان الإرهاب الفلسفة التي قامت عليها المنظمات الصهيونية الأولى مثل منظمة "الهاغاناه" (1921) وعصابة "أرغون" (1931) و"شتيرن" (1940) و"البالماخ" (1941) وهي المنظمات التي مثّلت الذراع الطويلة للمشروع الاحتلالي الذي بلغ ذروته في حرب 1948 (ما يقابل "النكبة" في التسمية العربية المتداولة)، وارتكبت مذابح جماعية على طريقة "الهولوكوست" أشهرها دير ياسين.

ثمّ تشكّل من هذه العصابات الجيش الاسرائيلي بعد إعلان الدولة، وهذا الارتباط بالعصابات الإرهابية يفسّر تكرار المجازر بحق الفلسطينيين من ذلك مجزرة كفر قاسم في 1956 وصبرا وشاتيلا في 1982، وصولاً للقصف العشوائي في غزة، وهي جرائم تُذكّرنا بأن حرب 1948 لا تزال متواصلة.

خطورة النكبة أنها مثّلت هزيمة نفسية أكثر منها عسكرية

بل إن المؤرّخ المنصفَ سينتبه إلى أن الصهيونية قد تفوّقت على النازية بارتكاب ما لم ترتكبه هذه الأخيرة من عمليات التهجير والعمل على إحداث انقلاب ديمغرافي وسرقة المياه، إلخ.

لكن النكبة لم تكن هزيمة عسكرية فحسب، بل إن الشعوب العربية تجرّعت معها مرارة سيكولوجية لا بدّ من أن يأخذها الباحثون بعين الاعتبار لمحو آثارها السلبية على الهمم، وإعادة إنتاج ما علق بالذاكرة الجماعية وفق إستراتيجيات جديدة، ويحتاج ذلك العمل ضمن عدة مسارات، مثل مواجهة النزعة الاستسلامية التي تسللت للأنتلجنسيا العربية وأبرزها الدعوة الصريحة للتطبيع الثقافي والتعامل الأكاديمي المفتوح مع "إسرائيل"، والتحجّج أن الفن والثقافة يخترقان الحدود والهويات. وهذا يدفعنا إلى مزيد من مقاطعة التظاهرات التي تتظاهر بالبراءة العلمية والثقافية وباطنها التطبيع على غرار "مهرجان سيت للشعر المتوسطي" و"الاتحاد الجغرافي العالمي".

أيضاً من الضروري الاشتغال على تمجيد المقاومة والإشادة بإنجازاتها ولو كانت صغيرة فهي تطيل أمد الصراع. لقد نجحت الانتصارات الصغيرة، بعد حرب 1967، في تدمير أسطورة كانت تروّجها دولة الاحتلال بالادعاء أنها تملك "جيشاً لا يقهر"، وها أن ما تنجزه المقاومة اليوم بإمكانيات بسيطة يؤكّد الأمر ذاته.

ومن أدوار النخب العربية أيضاً فضح الادعاء بأن دولة الاحتلال لها قضية تتمثل في رفع راية الحضارة في صحراء من الهمجية، وأنها حائط يحمي الغرب ولنا أن نستأنس بكتابات مثل "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" لـ روجيه غارودي.

لكن كل ذلك يحتاج إلى مناخ عربي جديد لن يتوفّر دون إخماد النعرات الطائفية والمذهبية والشعوبية المعاصرة التي ساهمت في تمييع الصراع العربي - الصهيوني، ووضع المجتمعات العربية تحت شبح الانقسامات والتناحر الداخلي وفرض حالة من التفسخ واللامبالاة.

الصورة
عبد الرؤوف سعيد - القسم الثقافي

* باحث تونسي في التاريخ المعاصر من مواليد 1981. صدر له كتاب بعنوان "المغيّبون في التجربة النقابية الأولى - مختار العياري نموذجاً" عام 2018.


ملاحظة ختامية: 
تمثّل مواضيع انشغال الباحثين خريطة نرى من خلالها درجة انهماك مجتمع ما في قضايا بعينها أو قراره التخلّي عن أُخرى. حين نبحث عن متخصّصين في "النكبة" في الجامعات العربية سنقف على قلّة هؤلاء، وكأن الأمر لا يتعلّق بمنعطف تاريخي يمسّ مجمل المنطقة العربية وليس فلسطين فحسب. تشير زاوية النظر هذه إلى علاقة الأكاديميا العربية مع القضية الفلسطينية، وهي علاقة ينبغي مراجعتها وإعادة بنائها إذا أردنا التحرير فعلاً.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية
المساهمون