آرون بوشنل.. الشهيد رقم 48 في العائلة

14 مارس 2024
متظاهرون في تايوان يرفعون صورة آرون بوشنل، تضامناً مع فلسطين، منذ أيام (Getty)
+ الخط -

كان اسمه آرون بوشنل، وكان عمره 25 عاماً. ومن خلال الوصيّة التي أرسلها ذلك الصباح، أعطى مدّخراته لمنظمة صندوق إغاثة أطفال فلسطين: حرفياً، صندوق إغاثة أطفال فلسطين (الذين قُتل منهم حتى كتابة هذا السطر أزيد من 13 ألفاً، ولا أحد يعرف بالضبط عدد المصابين بينهم). 

كان أوصى بنثر رماده في فلسطين الحرّة، إذا كان هناك شيءٌ من هذا القبيل (ولسوف يكون يا بوشنل، بإذن الله الحقيقي الذي كنتَ تؤمن به، وبإذن مقاومينا، الذين يعيشون على حبّة التمر، منذ 160 يوماً).

لقد مشى قليلاً، والعالَم يرى، ثم رمى الهاتف الخليوي على الإسفلت، ووقف أمام سفارة القتلة، ليُفرِغ محتويات قنينةٍ بلاستك فوق رأسه - كانت زجاجة ماء، لكنَّ السائل كان قابلاً للاشتعال - وأضرم النار. 

وبينما كانت نار بروميثيوس المقدّسة تلتهم المادّة البشرية القابلة للفناء، صرخ الفتى عدّة مرات: "فلسطين حرّة!"، "حرِّروا فلسطين!"، حتى لم يعد يحتمل، وسقط على الأرض.

 لقد بكيت عليك، تماماً كما بكيت على 47 شهيداً من الأحباب

قبل ذلك بوقت قصير، في الأوّل من كانون الأول/ ديسمبر عام 2023، قامت امرأةٌ لا تزال مجهولة الهوية (ملفوفة بالعلم الفلسطيني)، بحرق نفسها خارج قنصلية القَتلة في أتلانتا، جورجيا. 

طبعاً، استخدمت صحافة البروباغندا في كلِّ بلد على جانبي الأطلسي، طفّايات الحريق الموجودة تحت تصرفها، لمنع انتشار الخبر. 

ولقد تابعتُ، لعدة أيام، كيف بالكاد تمّ الحديث عن قربان الحرية الجديد. وكيف تجاهلته الصحف الكُبرى، أو تمّ الحديث عنه بعبارات مُلطّفة، على الصفحات الداخلية منها. وبطبيعة الحال، فقد استمرت مناقشة صحّته العقلية على الشبكات، حتى وُصم الحدث الجليل برذيلة الانتحار "واضحاً وبسيطاً". 

ومع ذلك، ظهرت الأمّ على الشبكات لتُلقي بظلالِها على الصحة العقلية لابنها القتيل، وانتهزت الفرصة لتقول إنّها وزوجها مسيحيان مُخلصان للكتاب المقدس، وإنهما يقفان إلى جانب العدو قلباً وقالباً.

إنّها طريقة لخلط المقدّس بالأشد دناسة، وطريقة أيضاً لخفض السعر، وإبطال عملية التضحية، بحيث تحدث ضجّة أقلّ في المجالَين السياسي والاجتماعي.

..............

لقد بكيت عليك، تماماً كما بكيت على 47 شهيداً من الأحباب.

يا بوشنل: أنت الشهيد رقم 48 في العائلة. 

حتى لو صرت وصاروا رماداً، وهو أمر قريب التوقّع، فلن يخلّصنا مآلُ الرماد من حبٍ لا يتزعزع تجاهكم، أنتم أولاء الذين يموتون من أجل حياة الآخرين. 

إنّها المفارقة المُفجعة لعالمٍ ماديٍّ حدّ الوضاعة، حيث يجب على الأفضلين أن يُقتلوا أنفسهم، لتشجيع اللامبالين على اختيار الحياة. 

إنّ تضحيتك لتعني مواجهة مدّ كاملٍ من البلهاء الوظيفيّين، الذين لن يشعروا بالإهانة والغضب، بل إنّهم سيرغبون في إيذائنا أكثر، لأنّنا لم نشاركهم فكرة العيش خارج الكرامة والأصالة، دون أن نكون جزءاً مما يُدمّر ويقتل ويستبعد ويهاجم بلا داع.

كم يبدو أنَّ نبوءة "بيرك" قد تحققت، حين قال إنَّ الشيء الوحيد الضروري لانتصار الشر أن يجلس البشر المحترمون ويشاهدوا الفوضى، دون أن يفعلوا أي شيء. 

لا غرو أن بقاءنا غير مبالين بالشرّ يجعلنا شركاء مباشرين له.

يا بوشنل: كلُّ انتحار هو حكم على النفس الطيبة، ولكن أيضاً على خراب الجنس البشري.

كل انتحار هو نبذ للعالم الخسيس، ومع ذلك فهو في بعض الأحيان أقوى طريقة للتدخل فيه. 

يا بوشنل: لتنسني عيوني، لو نسيتك حتى أموت. 


* شاعر من فلسطين مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون