"انفصلت سورية عنا" بهذه الكلمات المُستّلة من صحيفة "وقت" الصادرة في إسطنبول عام 1919، بدأت الحلقة الوثائقية المخصّصة عن سيرة حياة المُنظّر القومي العربي ساطع الحُصري (1880 - 1968) والتي عُرضت في 26 أيار/ مايو الماضي، ضمن سلسلة "مذكّرات" وتُبثّ على شاشة "التلفزيون العربي".
يرجع الوثائقي إلى الوقوف على مرحلة مفصليّة من تاريخ المنطقة العربية، في العقدين الأولين من القرن الماضي، حين اشتبكت الأفكار القومية الكبرى مع بزوغ النشاط السياسي على يد الجمعيات الفكرية والأدبية من جهة، وأفول الإمبراطورية العثمانية وتفكّكها بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى من جهة ثانية. بذا، ترتسمُ الخلفية التاريخية التي يتحرّكُ في سياقها رجلٌ تربوي وُصِفَ بأنّه "أبو التربية التركية" قبل أن يصبحَ لاحقاً عرّاباً لأدبيات القومية العربية، وما أفرزته من نماذج سياسية ابتداءً من المملكة السورية، مروراً بالعراق الهاشمي، وليس انتهاءً بعقد الستينيات.
وُصف بأنّه "أبو التربية التركية" ثمّ أصبح منظّراً للقومية العربية
يَظهر الحُصري، حسب الوثائقي، بوصفه واحداً من أواخر المواطنين العثمانيين، حيث تتكثّفُ في شخصيته التحوّلات الكبرى التي شهدتها الإمبراطورية في مراحلها الأخيرة. وهذا ما ذهب إليه الضيف الأول في الوثائقي صقر أبو فخر؛ الباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي أشار إلى أنّ أولى التأثيرات القومية التي تعرّض لها الحُصري كانت من خلال تماسه بالحركة القومية في البلقان التي درّسَ فيها لمدّة ثماني سنوات، الأمر الذي تركَ بصمةً كبيرة على وعيه. كما أنّ اشتغالاته التربوية جعلته يؤمن بأنّ التربية هي مدخل الإصلاح الحقيقي.
يبقى الحدث الأكثر احتداماً في مرحلة شبابه هو انخراطُه في الحركة الانقلابية ضدّ السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908، من دون أن تكون لديه طموحات بعدها لتولّي أيّة مناصب. إلّا أنّ السنوات اللاحقة لذلك، ستكون أكثر تأسيسيّة على صعيد الوعي السياسي لمُختصٍّ تَربوي، فنشاط الجمعيات العربية سيتواتر على وقع الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت عام 1914 التي لن تنتهي إلّا بإعلان تفكّك الإمبراطورية، ومحاولة الثورة العربية بقيادة الشريف حسين أن تقيمَ دولتها الحلم، وهنا سيرى المواطن العثماني ساطع الحُصري أنّ التفكك باتَ حتمية تاريخية، ولا يدَ للثورة بذلك.
رغم اشتباكه بالسياسة ظلّ ينظر إلى نفسه من موقع "فوق سياسي"
يقترب الحُصري مع التشكُّل الأوّلي للمملكة السورية من السياسة أيّ اقتراب، وتربطه بالملك فيصل علاقة وطيدة ستعمّر 14 عاماً، سيخوض خلالها غمار العمل الدبلوماسي بكلّ أنواعه من الوزارة، وبالأخص "المعارف" التي ارتبط اسمُه بها، إلى السّفارة التي توجّه بها إلى أكثر شخصيّة، مثل الجنرال الفرنسي غورو وهو يتقدّم بعسكره لاحتلال دمشق قُبيل معركة ميسلون 24 تموز/ يوليو 1920 تمهيداً لتنفيذ اتفاقية "سايكس ـ بيكو". أو حتّى مصطفى كمال في إسطنبول الذي أرسله إليه الملك فيصل بغاية خلق جبهة ما لمقاومة الفرنسيين، بيد أنّ الوقت كان قد تأخّر. أو حتّى السفر إلى روما لعرض القضية السورية أمام المحافل الدولية، وهذا ما أشار إليه الضيف الثاني في الوثائقي الباحث محمد جمال باروت؛ رئيس دائرة البحوث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
مع إعلان الانتداب الفرنسي على سوريّة، وانتقال فيصل إلى العراق، ارتحل الحُصري معه إلى هناك، وبدأت المرحلة تشهد هجرة كبيرة من العروبيّين للاستقرار في العراق حيث تهيّأ جوّ ملائم لتلاقي تلك الأفكار بتوجيه من الحُصري، إلّا أنّها كانت مرحلة شابها الكثير من الاصطدامات على المستوى الداخلي، أشهرها اصطدامه بمحمد مهدي الجواهري الذي كان في تلك الفترة قد بدأ أولى خطواته في حياته المهنية أستاذاً. وتفاقم الاصطدام بينهما لاتهامات بالعنصرية والطائفية وجّهها الجواهري للحُصري.
المرحلة بعد وفاة فيصل عام 1933 كانت مديدة في حياة صاحب "يوم ميسلون" إلّا أنّها بالتأكيد لم تكن مركزيّة من الناحية السياسية، إذ انتقل بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 إلى حلب، ثم إلى القاهرة بعد احتلال فلسطين من قبل الصهاينة عام 1948. ورغم اشتباكه القوي بالسياسة ظلّ ينظر إلى نفسه من موقع "فوق سياسي" كما كتب في مذكّراته، مُميزاً منظوره القومي بناءً على الأمّة من حيث هي تاريخ ولغة أكثر مما تكون الأرض والعنصر أو الدِّين، قبل أن يعود إلى بغداد بعد تمكّن القوميين العرب المتمثّلين بحزب البعث من الوصول إلى السلطة، ويتوفّى فيها عام 1968.