"لا نومَ" لماري داريوسِيكْ: في صُحبة الأرَق

23 نوفمبر 2021
ماري داريوسيك
+ الخط -

قليلة هي الكتب التي قد تتطلّب قراءةً في وقت محدّد. كتابُ الفرنسية ماري داريوسِيكْ الأخير، "لا نومَ" (أو "ألّا تنام"، "منشورات P.O.L"، باريس)، واحدٌ منها، رغم أنه لا يقول ذلك حرفيّاً لقرّائه. عنوانه، وحده، يكفي ليحدّد زمناً لقراءته: في ساعة متأخّرة من الليل.

يمكن، بالتأكيد، للنهاريين من الناس أن يتناولوا نصّاً كهذا في الصباح، أو بعد الظهيرة. لكنّهم يُخاطرون بأن يمرّوا قربه، كما تقول الصياغة الفرنسية، من دون أن يقبضوا على ما فيه. فالكتاب، الذي يتمحور حول الأرق، مكتوبٌ على إيقاع الأرق وبلُغته. ولعلّ تلقيه يفترض قراءةً هي الأُخرى محكومة بتقلّبات الأرق، وبفهم عالمه الخاصّ، وربما بالتشوُّش الذهني الذي قد يصاحبه.

ذلك أن العمل سردٌ ذاتيّ، حميميّ، متقطّع كالنوم، أو كمحاولات النوم التي يعرفها الأرِقون. وهو، في الوقت نفسه، محاولةٌ أو مقالةٌ مقسّمة إلى مقاطع تطول حيناً، كالليالي التي تخبرها الكاتبة منذ عشرين عاماً، أو تقصر، أحياناً، كبعض المساءات النادرة التي يأتي فيها النوم، إمّا بعد رحلة طويلة، أو بعد التحضير له طيلة النهار.

النص، بحدّ ذاته، متقطّع كالنوم الذي يعرفه الأرِقون

تكتب داريوسِيكْ (1969) في فصلٍ تُعدِّد فيه الوسائل التي لجأت إليها من أجل النوم: "جرّبتُ الصِّيام، عن الغذاء وعن التكنولوجيا. أقمتُ في دَيْرٍ عتيق، هادئٍ في المساءات حتّى أنّني كنت أستطيع سماع دقّات قلبي. كان نومي مضطرّباً إلى حدّ بعيد في الليالي الخمس الأولى، أنا التي كنت أفتقد حينها إلى كلّ شيء، بما في ذلك الحبوب المنوّمة. وفي الليلة السادسة نمتُ من المحاولة الأولى، ثم صحوت فزِعة، نشيطة ومستعدّة (لم يحدث أن حصل ذلك لي منذ زمن طويل جدّاً)... كي أنام، كان عليّ أن أحرم نفسي من كلّ منشِّطٍ، بما ذلك الطعام؛ وكان عليّ أن أمشي خمسة عشر كيلومتراً باليوم (...)، وأن أخرج من جلسات التدليك إلى الساونا، ومنها إلى الحساء ومن ثمّ السرير. أي أنّ نومي ليلاً كان يأخذ منّي النهار بأكمله. لكنّني ما إن عدتُ إلى حياتي الطبيعية حتى عاد شيطان الساعة الرابعة صباحاً ليطرق بابي".

لكنّ الكاتبة لا تقضي لياليها وحيدةً في انتظار نومٍ تعرف أنه لن يأتي (سريعاً). صُحبتها، في الأرق، هم كتّابٌ أرِقون مثلها (لا تتردّد داريوسِيكْ بالقول إنّ أغلب الكتّاب لا ينامون الليل)، وأحياناً أفلامٌ. وهي صُحبةٌ تشاركها مع القارئ، الذي يتجوّل معها بين لجوء مارسيل بروست، وصادق هدايت، وكذلك شخصيات لياسوناري كاواباتا أو بيتر هاندكه، إلى المهدّئات، وبين حاجة مارغريت دوراس، وهمنغواي، وفوكنر، إلى الكحول كي يستطيعوا النوم (والكتابة). بين هؤلاء تُعرّج على علاقة الأرق بالانتحار عند الكتّاب، وعلى الطقوس المعقّدة التي يعتادون عليها وينعزلون عن المجتمع، أحياناً، من أجلها، كتجنّب النوم قرب الشريك، الأمر الذي كان حال جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، أو على الهلوسات والأشباح التي قد تجلبها طيلة السهر دون نوم، من قبيل تلك التي يذكرها كافكا عدّة مرّات في يومياته.

كتاب لا نوم

على أنّ الإحالات الكتُبية والفيلمية الكثيفة في الكتاب لا تقرّبه كثيراً من تخوم المقالة الفكرية العارِفة، على طريقة الفيلسوف الفرنسي ميكائيل فوسيل في "الليل: العيش بلا شاهد" (2018). إذ لا تخرج الكاتبة من الحميميّ لتزور زملاءها الكتّاب في نصوصهم والمخرجين في أفلامهم، بل تدعوهم إلى عالمها هي، إلى مكتبها الباريسي، حيث تنام منذ أن اضطرّت إلى هجران "غرفة الزوجية" بسبب الأرق نفسه وتبِعاته على زوجها. حميميةٌ تذهب بها المؤلّفة إلى أماكن بعيدة، وجديدة علينا في هذا النوع من الكتابات، كأن تستحضر سهراتها الطويلة مع عددٍ من الكتّاب الذين تذكرهم بالاسم (منهم، على سبيل المثال، الأفغاني عتيق رحيمي، الذي يشاركها الأرق)، أو أن تضع العديد من صورها الشخصية ــ وصفحات الكتاب، بالمناسبة، مليئة بالصور، السوداء والبيضاء، الشخصية أو الفنية. أو كأنْ تستحضر علاقة عائلتها، وأجدادها، بالنوم، ضمن مسعىً جيولوجيّ أو تحليل ـ نفسيّ، هدفه، ربما، معرفة الذات (سبق لماري داريوسِيكْ أن عملت كمحلّلة نفسية، وأن أجرت سنوات طويلة من التحليل مع محلّلين آخرين).

هكذا، يمكن لأيّ قارئ، حتى ذلك الذي يُحِسّ بنفسه غريباً على عالم الأرق، أن يجد لنفسه مكاناً حميمياً في هذه المساحة التي تشاركها معه الروائية الفرنسية. وإن كان هذا القارئ من مُناصري الاستيقاظ المبكّر والكدّ والعمل وحتى الإنتاج، فهو، على الأغلب، لن يجد نفسه خائباً عند كاتبة أصدرت أكثر من ثلاثين عملاً فردياً، بين رواية وقصة ومسرح وترجمات (عن الإنكليزية واللاتينية) وسيرة ومقالة، إضافة إلى أكثر من عشرين عملاً مشتركاً، في الفنّ التشكيلي والحوارات والكتب الجماعية، وهي ما تزال في الثانية والخمسين من العمر.

المساهمون