"فنّ أقلمة النصوص": القارئ الذي عليه أن يقول لا لبودلير

31 أكتوبر 2020
بودلير في لوحة لـ غوستاف كوربيه
+ الخط -

لقرون، مثّل القارئ عنصراً هامشياً في الإبداع، قبل أن تظهر مدرسة "كونستانس" الألمانية منتصف القرن الماضي وتجعل منه محور ما عُرف بـ"نظريات التلقّي" التي باتت تدرس الأدب من زاوية القارئ تحديداً، ثم واصل هذا الجهدَ السيميولوجي الإيطالي أومبرتو إيكو في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حين أكّد أن النص الأدبي عبارة عن آلة كسولة لا تتحرّك إن لم يكن هناك جهد من القارئ قد يكون أحياناً نفس مقدار الجهد الذي وضعه الكاتب وهو يؤلّف نصّه. على المستوى النظري، صبّت هذه التنظيرات في مدوّنة الباحث الأدبي الفرنسي فانسان جوف؛ حيث اعتبر أنه لا توجد قراءة بالمعنى الذي نفترضه (استهلاك نص) بل توجد "قراءة - كتابة"، وهو ما يسمّى اليوم ضمن مدوّنة البحث الأدبي الفرنسي بـ lirécriture.

انطلاقاً من هذا المفهوم، وضعت الباحثة صوفي رابو كتاباً صدر مؤخّراً بعنوان "فنّ أقلمة النصوص" (منشورات أناكراسيس)، وهو عمل توجّه فيه دعوة صريحة بأن يأخذ القارئ اليوم "مقاليد السلطة" في يده، حيث عليه أن يعيد كتابة ما يقرأ بشكل جدّي، على خلفية أن ما كُتب لقارئ زمن آخر لا يمكن أن يُعطي ثمرته للقارئ الحديث.

ترى رابو أن تسليح القارئ بما وصلت إليه نظريات التلقّي يتيح له جرأة لم يكن يملكها في عصور سابقة، وهي بذلك تفتح مجال "نظريات التلقي" - وهو مجال بحثي نظري - على موضوع راهن وجدلي هو مراجعات النصوص الأدبية على ضوء قيم جديدة فرضت حضورها تيارات مثل: مناهضة العنصرية، والنسوية، وما بعد الكولونيالية. 

لم يعد مقبولاً أن يكون القرّاء مجرّد وعاء لقيم يدعو إليها المؤلفون

بالنسبة إلى رابو فإن القضية ليست إشكالية حين يكون القارئ فرداً، لكنها تشير إلى أنّ ما نعنيه بـ"القارئ" هو الجماعة وليس الفرد، وبالتالي فإن النصوص ينبغي لها أن تكون تحت سقف القيم الجماعية الحديثة. 

ما تذهب إليه المؤلفة كان محلّ جدل لعقود؛ حيث يرى كثيرون أنه من غير المجدي مراجعة نصوص كلاسيكية بل تكفي الإشارة في الهوامش إلى هذا النوع من الملاحظات، باعتبار أن تنقيح النصوص يعني في النهاية فرض قراءة على قراءات محتملة أُخرى. تجادل رابو هذا الرأي؛ حيث ترى أن بعض نماذج القراء (وتقصد بالخصوص التلاميذ) يأخذون النص كما هو ويبنون من خلاله قيمهم، ولا يوجد أي تأثير لم يُضئه أساتذتهم حول تاريخ نص من النصوص كما يندر أن يجعلوا من معلومات الهوامش في نفس أهمية النص الأصلي.

الحل الوسط بالنسبة إلى الكاتبة هو نشر مراجعات للنصوص القديمة من دون منع تداول النصوص الأصلية، مع توجيه كل فئة من القراء إلى النص الذي يناسبها. 

القارئ

في هذا الكتاب، اشتغلت المؤلّفة على عدد من نصوص الشاعر شارل بودلير، مشيرة إلى أن مقولات الدعوة للعنف أو تبرير الحقد أو السخرية من عيوب الناس لم يعد ممكناً أن تحضر في مدوّنة شاعر مقروء اليوم من شرائح من الشباب، تثبت الأيام أنهم يبحثون عن مرجعيات أدبية لتبرير خروقات يقومون بها ضد المجتمع. ترى رابو أن هؤلاء ينبغي أن يتعلّموا قبل كل شيء الموقع الفاعل للقارئ في كل نص، كي لا يكونوا مجرّد وعاء لقيم المؤلفين، وهو ما تلخّصه بضرورة إنهاء "عبدة الشمس".

آداب وفنون
التحديثات الحية
دلالات
المساهمون