"تجارة السعادة": مأساة أن تكون إيجابياً

09 أكتوبر 2022
مؤلّف كتب التنمية الذاتية توني روبنز أمام جمهوره، كاليفورنيا، 2010 (Getty)
+ الخط -

خلال تاريخها الطويل، لم يسبق أن تحدّثت البشرية عن السعادة كما هي تفعل اليوم. فمعجم السعادة ــ الذي قد يبدأ بالطمأنينة والرضا عن النفس، ولا ينتهي بالنجاح المِهنيّ واغتنام الملذّات ــ حاضرٌ بكثافة في كلّ مكان تقريباً: في المكتبات وعناوينها التي تريد تعريفنا بأسرار الناس السعداء كي نتعلّم أن نكون مثلهم، أو بتلك التي تعِدُنا بمفاتيح النجاح في خمسة أيام أو خمسين تمريناً؛ وفي صالات السينما وأفلامها (مثل "البحث عن السعادة"، 2006) التي أبكت بعضنا وهم يشاهدون أبطالاً إيجابيين وطموحين رغم سوء الحظّ والفشل اللذين يرافقانهم.

وفي السنوات القليلة الماضية، انتقل الخطاب حول السعادة إلى مواقع بث المقاطع المصوّرة، مثل يوتيوب الذي يحتوي مئات الآلاف من الفيديوهات التي تريد إعطاءنا مفتاح السعادة؛ كما انتقل إلى الشركات وفضاء العمل، بل وحتى إلى الحكومات، التي رحنا نرى بعضها تسمّي وزراء ووزيرات للسعادة.

على أن المفارقة تكمن في أن هذا الخطاب يزدهر في وقت لا يختلف فيه عاقلان على أن البشرية تعيش واحدة من أقلّ مراحلها سعادةً، في ظلّ ما نعيشه من أزمات جماعية ــ تبدأ بالمناخ ومستقبل الكوكب ولا تنتهي بالصحّة والحروب ــ وفردية، يدلّ عليها الاستخدام غير المسبوق لأدوية الكآبة والقلق، والمعدّلات المرتفعة للانتحار والإحساس بالوحدة.

هذه المفارقة تدفع المخرج الفرنسي جان كريستوف ريبو والكاتبة كلير أليت إلى التساؤل، في مطلع فيلمهما "تجارة السعادة"، الذي تبثّه قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية هذه الأيام: هل ازدهار الخطاب حول السعادة وإمكانية الوصول إليها دليلٌ على أننا نعيش في مجتمعات ناجحة ومكتملة، أم هو قناعٌ تخفي مجتمعاتنا المعاصرة وراءه كآبتها المزمنة وعدم قدرتها على العيش باكتفاء وتناغم مع عالمها؟

ليس عليك أن تشتكي من شيء، فالعائق الوحيد أمام نجاحك هو أنت!

للبحث عن إجابة أو إجابات حول هذا السؤال، يستضيف الشريط العديد من علماء النفس والأطباء والأكاديميين والباحثين المختصّين بمسألة السعادة، كما يقترح، في الوقت نفسه، قراءة تاريخية لولادة ما يُعرَف بـ"عِلم النفس الإيجابي"، الذي سنكتشف، ونحن نشاهد الفيلم، أنه العامل الأساسي وراء هذا الخطاب المعاصر حول النجاح، وأنه بالأساس فكرةٌ جاء بها أكاديميّ أميركي، هو مارتن سيليغمان، وتلقّفها منه رجال أعمال وأصحاب شركات ورؤوس أموال أغدقوا ملايين الدولارات كي يستطيع "الناس"، من عاملين في شركاتهم ومستهلكين لبضائعهم، من الوصول إلى السعادة في عملهم واستهلاكهم.

ورغم أخذه بالرأي والرأي الآخر، إلّا أن الشريط يمثّل، قبل أي شيء، أطروحة نقدية بصرية حول هذه "الصرعة" المعاصرة، حيث يحلّل، بالصورة وبمداخلات المتخصّصين، عدداً واسعاً من العبارات التي نسمعها بكثرة في يومنا هذا حول ضرورة أن يتصالح المرء مع نفسه، أن يُفجّر طاقاته الكامنة ويُخرج أفضل ما عنده، وأن يتجنّب العواطف والمشاعر السلبية لما فيها من أذى، ليضع نصب عينيه نظرةً إيجابية ومتفائلة إلى الوجود، وبالتأكيد إلى ظروف عمله وعيشه.

لكنّ الخشية التي يكشف عنها الفيلم تشير إلى أننا قد نكون أمام نوع جديد من العبودية (عبودية التفاؤل والنجاح) والسذاجة السياسية، حيث يُحمَّل الفرد بشكل كامل مسؤولية أوضاعه السيئة وظروف عيشه القاسية، نفسياً واجتماعياً ومِهنياً. وهو خطابٌ يلخّصه، في الفيلم عالم الاجتماع السويدي كارل سيديرستروم، بقوله ساخراً من أطروحات علم النفس الإيجابي: "ليس لك الحقّ في أن تشتكي من شيء. فالعائق الوحيد أمام نجاحك هو... أنت".

المساهمون