تختص زاوية "صدر قديماً"، التي أطلقها القسم الثقافي لصحيفة وموقع "العربي الجديد" في شباط/فبراير 2017، بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها.
كثيراً ما تُستعمل عبارة ملء فراغ في المكتبة العربية في غير محلّها، فهي عبارة أقرب إلى دعاية لكثير من المؤلفات التي وردت فيها دون أن تجد مبرّراتها في مضامين هذه الأعمال. غير أن كتاب "تاريخ الفكر العربي" الذي صدر في 1928 للكاتب المصري إسماعيل مظهر (1891 - 1962) كان جديراً بمثل هذا الادعاء، فحين نُشر لم يكن يوجد عمل يقدّم قراءة شاملة في الفكر العربي منذ نشأته، وصولاً إلى أيامه.
ثمّ إننا حين ننطلق في قراءة الفصل الأوّل من الكتاب، وقد حمل عنوان "تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوّره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية" قد نشعر - من خلال إلمام المؤلف بتشعّبات هذه المسألة التي قد جعلها منطلق مبحثه - بأننا حيال مشروع رائد قد يعيد للثقافة العربية بعض الثقة في النفس إثر الاهتزازات العنيفة التي تعرّضت لها منذ الحملة النابوليونية، وطوال القرن التاسع إلى بدايات القرن العشرين.
إلا أن هذا الفصل يكاد يكون الوحيد الذي يمكن وضعه تحت مسمّى "تاريخ الفكر"، حيث إن تبويب الكتاب سيخضع لاحقاً لمنطق غير كرونولوجي، ويعتمد المؤلف الكتابة السِّيَرية في تناول تاريخ الفكر العربي. الغريب أن الشخصيات التي اختارها مظهر ليست ممّن تكرّس الاعتقاد بأنهم "فحول" الفكر في الحضارة العربية الإسلامية، إذ يغيب الكندي والفارابي وابن سينا وابن خلدون، فيما يحضر جابر ابن حيان وأبو العلاء المعري ومهيار الديلمي في فصول مخصّصة لهم.
هكذا، فإن مقارنة بين عنوان الكتاب وفهرسه ستقود القارئ إلى اعتبار "تاريخ الفكر العربي" اسماً على غير مسمّى، وقد كان أجدر بالكاتب المصري لو اعتمد عنواناً أكثر تواضعاً، والأهم أن يكون أكثر مطابقة لمحتوى عمله، وربما كان أجدى لو قصر كتابه على الفصل الأول فجعله دراسة مستقلّة في انتقال المعرفة الفلسفية من اليونان إلى العرب، فقد قدّم في هذا الإطار قراءة ناضجة تعبّر عن فهم لدقائق النصوص القديمة ومعرفة واسعة تُحسن الربط بين ما ينتج ضمن الفكر وما يؤثّر فيه من عوامل الدين والشعر واختلاف الأعراق والعادات، وبذلك كان يبيّن كيف تسرّبت أفكار كتب أفلاطون وأرسطو فتشرّبها العرب ووازنوا بينها وفحصوا ومحّصوا، وبفضل ذلك وجدوا لهم طريقاً جديداً في الفلسفة، ومن هذا المنظور يحسم كتاب مظهر الجدل مع القائلين - ومعظمهم من مستشرقي عصره - بأن الثقافة العربية مجرّد ناقل للفلسفة اليونانية القديمة إلى العصور الحديثة.
من حُسن الحظ أن الثغرة التي تركها مظهر سرعان ما انبرى كاتب مصري آخر لردمها؛ حين أصدر أحمد أمين في 1929 كتاب "فجر الإسلام"، مفتتحاً به موسوعة تؤدّي غرض التأريخ للفكر العربي، وإن أتت ضمن مقاربة مختلفة عن الكتابة التاريخية المضبوطة. أما تاريخ الفكر العربي بالمعنى الدقيق للكلمة، فلعله إلى أيامنا لم يُكتب بعد، ربما باستثناء محاولات بلغات أجنبية كما فعل محمد أركون في الفرنسية أو ميغيل كروث إرنانديث بالإسبانية.