يكاد الحديث عن تناوُل الفلسفة لمسألة العمل يكون مرتبطاً، بشكل شبه دائم، باسم كارل ماركس، أشهر الفلاسفة - ربما - الذين خصّصوا جزءاً واسعاً من تجربتهم للبحث في معنى العمل، وجُهد العامل، والمال، والربح (ثلاثة من كتبه، على الأقل، تتناول العمل بشكل مباشر: "رأس المال" و"المال والدولة والبروليتاريا" و"العمل المأجور ورأس المال"). أو قد يمتدّ هذا الحديث، في أحسن الأحوال، إلى هيغل، ولا سيّما في تحليله للعلاقة الجدلية بين "السيّد" و"العبد" العامل، في مقطعٍ يُعَدّ من أكثر ما كتبه شهرةً لدى عموم القرّاء.
على أن شُهرة هذين التناوُلين الفلسفيين للعمل يكادان يغطّيان على ما كُتب قبلهما، بما يُعطي فكرةً بأن مسألة الشغل فكرةٌ حديثة في تاريخ الفلسفة، وأن الفلاسفة لم يكتشفوها إلّا في القرن التاسع، إبّان الثورة الصناعية. أمرٌ يعرف أيُّ شخصٍ قرأ أعمال أفلاطون وأرسطو (عاشا بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد)، أو بليز باسكال أو جون لوك (القرن السابع عشر)، أنهُ بعيدٌ عن الصواب.
هذه الفكرة، فكرة أن العمل ليس بالثيمة الجديدة على الفلسفة بل واحدٌ من أقدم المواضيع التي تناولها المفكّرون بالسؤال والتحليل، تأتي في قلب الكتاب الصادر حديثاً عن منشورات "فْران" في باريس، بعنوان "تاريخٌ فلسفيّ للعمل"، وبتحرير كلّ من فرانك فيشباخ، وآن ميركر، وبيار ـ ماري موريل، وإيمانويل رونو، ومشاركة أحد عشر باحثاً وباحثة آخرين.
يسعى الكتاب إلى الذهاب أبعد من المقولات المتعجّلة والخلاصات المتسرّعة، الشائعة في الآونة الأخيرة، حول "نهاية العمل" وتضاؤل معناه، وجودياً على الأقل، بالنسبة إلى الأفراد. على العكس من ذلك، ينظر محرّرو الكتاب إلى الشغل ليس فقط باعتباره أساساً تدور حوله حيوات الأفراد، بل أيضاً نقطة التقاء فكرية تُكثّف العديد من الأسئلة الأنثروبولوجية والأنطولوجية والميتافيزيقية، والأخلاقية بالتأكيد.
تحاول كل مقالةٍ من مقالات الكتاب المختلفة معالجة السؤال تحت واحدة من هذه الزوايا، مع التوقّف عند فلاسفةٍ أساسيين ومفاهيم مفتاحية في المعالجة الفكرية لمسألة العمل، بما يجعل من الكتاب أشبه باقتراحٍ لتاريخٍ موسّع (لكن غير شامل) للفلسفة انطلاقاً من منظور الشغل.