تستأذن المخرجة الأردنية هنادي عليّان المشاهدين بقبول الاستهلال الجديد "قالت الراوية" بدل المأثور القديم الذي يُدشّن به الحكواتي حكاياته بـ"قال الراوي يا سادة يا كرام". في ثلاثة أفلام هي حصيلتها السينمائية، النساء هنّ صاحبات القول، من فيلمها الأول "فرصة مريم" (2013) والثاني "فيزة نادية" (2018) وأخيراً "بيت سلمى" (2022).
والفيلمان الأول والثاني روائيان قصيران (15 و18 دقيقة على التوالي). أما الأخير فكان الفرصة الكُبرى التي قدّمتها عليّان سينمائياً للجمهور عبر فيلم روائي طويل من ساعة و35 دقيقة، شوهد في قاعات السينما في الولايات المتحدة ومن بعدها عمّان في عرض خاص، لكن دائرة مشاهديه توسّعت أكثر بكثير من خلال منصة "نتفليكس".
الصوت الخفيض
الحكاية ببساطة هي مراهنة على الصوت الخفيض لسرد أزمات ثلاث نساء بعد وفاة الزوج: الزوجة الأولى سلمى (جولييت عواد) صاحبة البيت، والتي اكتشفت بعد سنوات طويلة أنها غير مطلّقة رسمياً من زوجها. والزوجة الثانية، الرقيعة لمياء (رانيا الكردي)، التي نبتت فجأة بعد وفاة الزوج، وصارت ضَرّة وتطالب بمقاسمة البيت. وأخيراً فرح (سميرة الأسير) ابنة سلمى الموظّفة التي ترعى طفلها ناجي وتَصرف على زوج يُضيّع وقته في ألعاب الفيديو.
بمثل هذه الأزمات، كان يمكن للمُخرجة أن ترفع نبرة الصوت لدى تصادم ضَرّتين على الميراث، واكتشاف أنّهما معاً أمام خيار بيع البيت، بسبب تراكم أقساط بنكية، ولم يكن ينقص فرح المُدمنة على الكحول سوى أن تعرف بعد كلّ هذه السنوات بأنّها ابنة بالتبنّي.
يصوّر الفيلم حالات شقاء وتعب.. والنفاقَ الاجتماعي كذلك
إلّا أن هنادي عليّان اختارت أن تكتب نصاً وتخرجه دون ولولة، وعليه خاضت النساء صراعاتهن بمزيج درامي كوميدي، كان الهدف منه تمرير الفيلم عبر ثلاثة بورتريهات وصورة جماعية تتوسّطها سلمى، لا بوصفها بطلة، بل لأنها صاحبة البيت الذي عاشت طفولتها فيه، وتتشبّث به، وتمارس حرفة خَبز الكعك ذي الوصفة السرّية الممنوعة على أحد معرفتها.
وحقّقت الكاميرا التي اشتغلت في جُلّ العمل من بيت قديم في جبل الجوفة إطلالةً محبّبة على وسط البلد، حيث يقع الجبل فوق أعزّ معلم وهو المدرّج الروماني، وما تيسّر من جبال عمّان السبعة.
تدور الحكاية غالباً بين مطبخ سلمى وسطح تزيّنه أُصص الزريعة، ورفّ حمام يطير ويحطّ عليه. وستكون النساء الثلاث حاضراتٍ بأزماتهن في غياب فعالية الرجال، إذ كانت الأنثى هنا ممثّلة للعيوب المجتمعية والفردية، بينما الرجل إمّا ميت، أو مُتماوت.
خطأ سلمى
سلمى تقع في خطأ تاريخي ببناء جدار شفّاف بينها وبين ابنتها التي التقطتها ذاتَ يوم من ملجأ أيتام، والضَرّة لمياء المريضة بالإنستغرام، لا تكفّ عن الكذب على الآلاف من متابعيها بأنها تحدّثهم من باريس، بينما هي في جبل الجوفة، وهو من المناطق المضغوطة بوصف "الشعبية". والابنة فرح تأتي يومياً لترك ابنها ناجي عند جدّته، قبل أن تقرّر للمرّة الألف أنّها لن تعود إلى زوجها المسكون بألعاب الفيديو، وقبل أن تختم لقطة الخروج من بيتها بشتم الزوج شتيمة، هي من الفلكلور الشامي (نسبة إلى بلاد الشام)، إلّا أن مقطع الفيديو "البذيء" طاف مواقع التواصل، وبات تكئة لحُرّاس فضيلة موسميِّين.
الكذب وشروخ العلاقة الزوجية والنفاق الاجتماعي، والازدراء المُتبادل بين الأجيال، كلُّ ذلك يجدُ نفسه أمام امتحان بيع البيت الذي تذعن له سلمى أخيراً بعد رفض مستميت.
غير أن الحكاية لن ترمي بأبطالها المكسورين إلى الشارع، لا لأنها تريد نهاية سعيدة مفبركة، بل لأن السرد يمكن أن يطول ويمتدّ فيكون الطريق إلى نهاية الفيلم أجمل من النهاية، في تصادٍم مع عبارة "الطريق إلى البيت أجمل من البيت"، وكان غياب المحبّة الدرك الأسفل، لا الكراهية.
جَميد كيك
كعك سلمى، عنوان معركة النجاح في ظاهرة من الاقتصادات المنزلية الآخذة بالتوسّع، وتتنافس على الجودة والابتكار وفنّ التسويق. وبما أنّ البيت مهدّد، فإن الجميع سيتنازل عن ذاتيّته، وستكشف سلمى عن سرّ الوصفة المتمثّل في إضافة قليل من الجميد (اللبن المملّح والمجفّف) إلى كعكها، بالمقدار القليل من الملح الذي يضيفه الخبّازون إلى مخبوزاتهم وحلويّاتهم.
ولن تعود لمياء ضَرّة هنا، بل شريكة، وعليه ستُصارح آلاف المتابعين على إنستغرام، وتعترف بأن فيديوهات السياحة في باريس كاذبة، والحقيقة أنها "على الحديدة" وهي الآن تطلب منهم الغفران وقبول المنتج الاستثنائي "جميد كيك".
مراهنة على الصوت الخفيض لسرد أزمات ثلاث نساء
هذه مبالغة سطحية غير مبرّرة أبداً، وكان البديل الأوجَه أن تخفي لمياء ما ارتكبته سابقاً ريثما ينجح تسويق المنتج. أنت في عالم افتراضي، وأمامك بضعة أيام سيحجزون فيه على بيتك، فكيف تخوض حملة تسويقية، وأنت في أمسّ الحاجة للمال، تبيع منتجاً غذائياً، وفي الوقت نفسه تعترف فيه لجمهور بنيتَه في شهور وربّما سنوات، بأنك كاذب ومزوِّر ومخادع؟
حقّقت سلمى ومعها شريكتها وفرة اقتصادية وباتَ بالإمكان البقاء في البيت معزَّزتين مُكرَّمتين، بل إن الفضل النسائي شمل زوج الابنة الحاصل على شهادَتي ماجستير ولا يعمل بهما، وباتت له فرصة عمل جيدة الآن في توصيل الطلبات.
لغط قليل
أُثير حول الفيلم لغطٌ قليل، على غير ما فعلته أفلام ومسلسلات أردنية سابقة. فما عدا أسطوانة الحياء وخدشه، كان الجديد اعتراض وشكوى وتذمّر من ذِكْر اسم عشيرة المتوفّى الذي رحل وترك النساء في حَيص بيص، إذ صادف أنه اسم عشيرة أردنية، مع العلم أنه متوافر بغزارة من الخليج إلى المحيط، وخصوصاً في ما يقرب الخمسة ملايين متر مربع المحيطة بالأردن من شبه الجزيرة العربية إلى العراق وبلاد الشام ومصر.
ومع أنّ وجود الاسم ليس مسيئاً، يعني لم يكن ربُّ العائلة الميت في الفيلم، يتاجر بالأعضاء البشرية أو مغتصباً. إنها مسألة شرف شكلي مثل التديّن الشكلي. أنت تستعمل اسماً وهمياً صادف أن له مثيلاً على الأرض، لكن عليك غسل الشخصية السينمائية بالثلج والبرَد، فإن وقع ذِكر اسم فرد عشائري، فليكن ضابط شرطة غاية في النبل ومحنّطاً إلى الأبد، أو مدير مدرسة يسرق القلوب ولا يسرق مساطر ومحّايات.