ربما كان من أهمّ نتائج الثورات العربية، حتى اليوم، على الصعيد المعرفيّ، تذكيرُها بالضرورة الكبيرة للعلوم الإنسانية، بل وإعادتها إلى الواجهة، في مجتمعاتٍ عربيّة تعرف غلياناً اجتماعياً وسياسياً، لكنّها لم تنلْ، حتى وقتٍ قريب، حقّها الكافي من الدراسة من قِبل أبنائها، في مجالات مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
هذا التقصير المعرفي يُسجِّل، لحسن الحظّ، تراجعاً في السنوات القليلة الماضية، التي شهدت ولادة العديد من المبادرات المعرفية التي تسعى إلى سدّ الفجوة بين المجتمعات العربية والدراسات الإنسانية. وليس "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وعُقدت دورته الثامنة قبل أيّام، إلا أحد الأمثلة على هذه المساعي.
وقد ضرب "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية"، بالتعاون مع "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، موعداً جديداً للإنسانيات، حيث انطلقت، أمس الثلاثاء، فعاليات "المنتدى العربي الإقليمي للعلوم الإنسانية"، التي تمتدّ على يومين (حتى مساء اليوم)، وتأتي تحت عنوان "إعادة تمركُز العلوم الإنسانية".
يشارك في التظاهرة ــ التي تُعقَد عن بُعد، عبر تطبيق "زووم"، وبثلاث لغات (العربية والإنكليزية والفرنسية) ــ العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية، في أكثر من بلد عربي، مثل مصر ولبنان والمغرب، إضافة إلى مسؤولي منظّمات ومؤسّسات معنية بالشغل الاجتماعي والتنمية، وأكاديميين من بلدان مثل كوريا الجنوبية ومالي.
شهد اليوم الأول من المنتدى، أمس، جلستين، بالإضافة إلى الجلسة الافتتاحية. دارت الجلسة الأولى حول محورٍ هو: "العلوم الإنسانية النقديّة في المنطقة العربيّة: أمثلة واتجاهات"، وكان من بين المداخلات المقدَّمة فيها عرضٌ للأكاديمية المصرية، والمختصّة في الأدب والنسوية، هدى الصدّة، حول دور الحكاية في المجال المعرفي. انطلاقاً من مشاركتها في بناء أرشيف تاريخي جندري للعالم العربي، ومشاركتها في حملة "الولاية حقي" لمؤسسة "المرأة والذاكرة"، حاولت الصدّة إعطاء صورة ملموسة عن فعالية الحكاية ليس فقط في بناء وعي فردي، بل أيضاً على مستوى الناشطية والوعي الجماعي.
من جانبهنّ، قدّمت هنا شلتوت، وتمارة سليمان، وريم جودي عرضاً مشتركاً لمشروع مسحيّ مشترك قمن به حول مفهوم النقد كما يحضر لدى ثلاثين مؤسّسة ومنظّمة عربية. جمعت الباحثات معطيات هذه المنظّمات من خلال استبيان، وخلصن إلى عددٍ من المحاور أو النتائج المشتركة، وكذلك إلى فروقاتٍ، حول الكيفية التي يجري النظر من خلالها إلى فكرة النقد. أبرز المحاور المشتركة التي وقفن عليها هي دور التحويل الرقمي وتأثيره على إنتاج المعرفة والنقد، والصعوبات اللغوية والترجمية التي يعانيها المشتغلون في هذا الحقل؛ أما أبرز الاختلافات فتحضر فيما يخصّ العلاقة بالدولة، التي تأخذ أشكالاً مختلفة، حالها كحال مفهوم النقد، الذي قدّمت المنظّمات والمؤسّسات المشتركة مفاهيم متعدّدة ومختلفة له، بحسب الباحثات.
"تدريس العلوم الإنسانية" كان المحور الذي دارت حوله الجلسة الثانية، والتي شارك فيها الباحثون بسام بو غوش، وأمل الفلاح، وساري حنفي، وسعيد المصري. تركّزت مداخلة بو غوش حول ضرورة وسبُل تعليم الفلسفة منذ الصغَر، والمتطلّبات والنتائج التي تترتّب على خيار كهذا، متّخذاً من مشروع لـ"المركز التربوي للبحوث والإنماء" في لبنان مثالاً عملياً. أما سعيد المصري، فقد أعطى صورة عن تدريس العلوم الإنسانية في مصر،
وفي حين دارت مشاركة آمال الفلاح حول استخدامات الذكاء الصناعي، ومضاره وفوائده، ومقاربة العلوم الإنسانية له، تساءل ساري حنفي عن إمكانية تجاوز القطيعة بين "علوم الشرع" والعلوم الاجتماعية، وهو تساؤلٌ لم يتأخّر في الإجابة عليه: يمكن، بل لا بدّ ربما، من الجمع بينها، لما يلعبه الدين من دور في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، على مستوى صياغة القيم والأخلاق، وبالتالي العلاقة بين الجماعات المختلفة.
يستمرّ المنتدى، اليوم، عبر جلستين، تحمل الأولى عنوان "المعرفة من أجل الدمج" ويشارك فيها كلّ من فاديا كيوان، ولينا أبو حبيب، ومحمد العجاتي، وزياد عبد الصمد، فيما تُخصَّص الجلسة الثانية، والرابعة لمسألة "الإنسانيات ما وراء الحدود"، بمشاركة دارينا صليبا وغودوين مورونغا، وتشونجسوه كيم. وتُختَتَم التظاهرة بجلسة ختامية، يشارك فيها باحثون ومسؤولو مؤسسات علوم اجتماعية، هم روزي برايدوتي، وسايكو سوجيتا، وستناي شامي، ودارينا صليبا.