"الفنان في ثوب الباحث": كيف تُطبخ الفنون المعاصرة؟

09 نوفمبر 2021
لوحة بعنوان "تداخل" لـ كورت كرانتس
+ الخط -

يتّجه الباحثون والمؤرّخون عادةً إلى الأعمال الفنية كي يتحدّثوا عن تحوّلات الفن، يقوّلونها بما لديهم من نظريات ومفاهيم فيرصدون متغيّرات الأساليب وزوايا النظر والخامات والمحامل ومختلف المفردات البصرية ومن ثمّ يثبتون وجود نقلة بين حقبة زمنية وأخرى. لكن ماذا لو تركنا جانباً ما في اللوحات، وقرّرنا مقاربة تحوّلات الفن انطلاقاً ممّا يبدعونه؟

ذلك ما تتصدّى له الباحثة الفرنسية كارول تالون-هوغون (1959) في كتابها الصادر هذا العام "الفنان في ثوب الباحث" (منشورات "بوف")، وهي منذ عتبة العنوان تكشف عن لقاء حاسم في تاريخ الفن، لقاء الفنان بالباحث واندماجهما، وهو لقاء بات يُنتج تاريخ الفن منذ بضعة عقود.

ربما علينا، بدءاً، أن نضع الكتاب الجديد ضمن سياق بحثيّ أوسع تشتغل عليه تالون-هوغون، أستاذة فلسفة الفن في "جامعة شرق باريس"، وقد سبق لها أن نشرت أعمالاً مثل "منظّرو الفن" (2017)، و"الفن تحت الضبط" (2019)، كما اشتغلت بين 2013 و2018 على كتابة "تاريخ شخصي وفلسفي للفنون" في خمسة مجلّدات. هذه الأعمال تمثّل خلفية لعملها الأخير، ولعلّ جميع هذه الكتب تشترك في إشكالية واحدة: ماذا حدث للفن في عقود معدودة، وبناء على ما يحدث فيه اليوم على أي مصير يُشرف؟

ترى الكاتبة أن الفنان بات أقرب إلى موديل في مرسم الباحث

تُفاجئ المؤلفة قارئها بمدخل يتّخذ من فيران أدريا (1962) نموذجاً للدرس. عنصر المفاجأة أن الشخصية المذكورة ليست لفنان بالمعنى المعروف، أو بالأحرى هي شخصية تُعرف بصفة أبعد ما تكون عن الفن، ففيران أدريا مشهور أساساً بكونه صاحب مطعم في كتالونيا حقّق صيتاً عالمياً بفضل فوزه لمرّات بجائزة أفضل مطعم في العالم. لكن تالون-هوغون تنبّهنا إلى أن "الطبّاخ الكتالوني" قد شارك في سيمبوزيومات ومهرجانات تشكيلية خلال العقد الماضي، كما أن لديه لوحات معروضة في متاحف للفن المعاصر في مدريد ونيويورك. بعبارة وجيزة، لقد أصبح فناناً معترفاً به.

هنا يرتسم سؤال رتبّت المؤلفة الوصول إليه بعناية: كيف تمكّن فيران من اختراق منطقة مسيّجة مثل الفن؟ ومن المعروف أن الاعتراف بشخص ما كفنان يمرّ عبر منظومة معقّدة يتحرّك ضمنها النقّاد وأصحاب الغاليريهات والمموّلون والصحافيون والفنانون أنفسهم، وهؤلاء هم من يقبلون من ينتمي إلى المجال الفنّي ومن عليه أن يغادره، وربما علينا أن نذكر أن بعضاً ممن يعتبرون اليوم أسماء أيقونية في عالم الفن لم ينجحوا طوال حياتهم في اختراق منطقة الاعتراف هذه، ولعلّ أشهرهم الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ. فكيف نجح فيران أدريا في ما فشل فيه فان غوخ؟

تذكر تالون-هوغون أن "الطبّاخ الكتالوني" قد استفاد من فائض الشهرة والعائدات المادية لمطعمه كي ينشئ مخبراً يدرس العلاقة بين الإبداع والطعام، وهي منطقة بحثية غير بعيدة عن اهتمامات مجالات كبرى مثل علم النفس والأنثروبولوجيا وخصوصاً منظومة البحث العلمي حول الفنون، وهناك أصبحت قضية الإبداع ومصادره مسألة أساسية منذ سنوات. 

وضع الفن تحت سقف الأكاديميا يَنتج عنه "نزع الفن من الفن"

فإذا كان من الصعب أن يُعترف بأحدهم فناناً، فإن صفة الباحث مبذولة لمن يعرف كيف يندرج ضمن حلقة من حلقات المنظومة المعرفية. هكذا ترسم تالون-هوغون الجسر الذي انتقل من خلاله أدريا من الطبّاخ إلى الفنان، مؤكّدة أن الأمر لا يتعلّق بـ"مسار شخصي واستثنائي، وأنه ليس مجرّد خطة ذكية بل هو استعمال لممكنات بات يوفّرها الواقع". كما تشير إلى كونها تعتقد أن فيران أدريا لم يبحث بنفسه عن موقع في الحقل الفني بل إن اشتغاله على الترويج لمنتجات مطعمه هو الذي ربطه بمنظومات (أكاديمية وإعلامية وفنية... ) لها القدرة على أن تدفع به إلى مواقع جديدة: الباحث فالفنان.

في هذا المدخل، فتحت تالون- هوغون قوساً قد يمثّل فاتحة لمشاريع بحثية قادمة، حيث تشير إلى أن الأحكام الجاهزة وحدها تقيم الفصل بين الطبّاخ والفنان، في حين أن التجربة التي يمارسها كلاهما هي ذاتها من حيث كونها اشتغالاً على مادة إبداعية تقدّم للتلقي عبر الحواس. في تاريخ الفن، حدث أن جرى طرح عدد من الحواس وتكريس أخرى، فباتت العين والأذن وحدهما أجهزة تلقي العمل الفني، وبالتالي انحصر الفن أو يكاد في فنون مثل الرسم والموسيقى والشعر والسينما والمسرح. 

أما المادة التي تقدّم لتلقي بقية الحواس (الذوق، الشم، اللمس) فهي غير معترف بها ضمن الفن، في حين أن بعض العطور قد تقدّم للمتلقي تجربة حسية أعلى مما تقدّمه قصيدة، ويمكن أيضاً أن يكون للأكل مفعول انتشائي أعلى من ذلك الذي تقترحه مشاهدة لوحة أو مسرحية. وبهذا المعنى الموسّع للفن (الذي لا يقصي أي حاسة) فإن الطريق الطويلة التي سلكها أدريا كي يُعترف به كفنان ماهي إلا تعقيدات منظومة الاعتراف الذي اختلقها الفنانون لتسييج حقلهم الاجتماعي بعبارات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو.

الفنان في ثوب الباحث

هذا القوس الذي فتحته تالون-هوغون لا يفتأ يعيد القارئ إلى الإشكالية الأصلية للعمل: لماذا يسود اليوم نموذج الفنان- الباحث بحيث أن دخول مجال البحث العلمي بات أحد الصكوك التي تمنح شرعية القول: أنا فنان. 

تعتبر المؤلفة أنه ومنذ القرن التاسع عشر جرى تطوير خطاب متضخم حول الفن، خطاب بدأ في إنتاجه النقّاد ثم الفنانون أنفسهم، ومع تطوّر الجامعات باتت هذه الأخيرة محضنة هذا الخطاب، كما قدّمت في الوقت ذاته مواقع جامعية للفنانين وقد خلق هذا الوضع ما تسمّيه الباحثة الفرنسية بـ"النوايا الثلاثية"، فقد بات الرسام الذي ينتمي إلى مؤسسة جامعية يبحث في نفس الوقت عن إنتاج معرفة (أطروحات، دروس، مؤلفات...) تتيح له التطوّر في السلّم الوظيفي، وإنتاج فن يتيح له "البقاء حياً" في مجال تنافسيّ مثل الفن، وإنتاج خطاب ذاتي (تأمّلي أو تنظيري) يمنح مشروعية لكل مسار من مساريه، وهنا بات الباحث يتغذّى من الفنان كما يتغذّى الفنان من الباحث، حتى إذا دخلنا النصف الثاني من القرن العشرين بات الفنان- الباحث يلعب دورين في منظومة الاعتراف لدخول الحقل الفني (دور الناقد ودور الفنان)، وفي ظل وضعية كهذه من الطبيعي أن يجري توظيف قواعد اللعبة الجديدة لمن يمسكون بخيوطها. ولا ننسى أنه في الأثناء انكمش دور الناقد لأسباب لا يفسّرها تاريخ الفن وحده، بل التاريخ الأدبي أيضاً والتحوّلات السياسية.

يتناول كتاب تالون-هوغون مسارات أُخرى تتداخل في هذا المسار، منها صعود العلوم الإنسانية كسلطة معرفية جديدة منذ الستينيات، مع استقلالها بشكل قاطع عن المعرفة الأدبية، وكان من الواضح أن أكاديميي الفن قد أخذوا يندمجون في الأطر التي توفّرها العلوم الإنسانية، وأخذ الفن يعكس أكثر فأكثر نتائج البحث في علم التاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الجريمة وصولاً إلى الحضور القوي للإيكولوجيا في الفن منذ عقدين.  

ترى تالون-هوغون أن اللقاء بين الأكاديميا والفن ليس إيجابياً في مجمله، فالفن منغرس في الذاتية التي تنكرها الأكاديميا في أدبياتها الصريحة، وهذا ما يُنتج مساراً تسمّيه الباحثة الفرنسية بـ"نزع الفن من الفن" أي أنها بذلك تشير إلى أحد أسباب أزمة الفن وهو تضحيته بالذاتي على مذبح الموضوعية التي تقتضيها الشروط الأكاديمية. وفي الاتجاه المعاكس، ترسم أحد أسباب أزمة العلم الحديث (العلوم الإنسانية تحديداً) وذلك بسبب محاولتها احتضان كل شيء، بما في ذلك الفن على ما فيه من تناقض جذري معها، ونتيجة لذلك تهتزّ الأرضية التي تقف عليها المعرفة العلمية.

نشعر ونحن نعبر كتاب "الفنان في ثوب الباحث" بانتقال تدريجي في النبرة، من بدايةٍ هي أقرب إلى طرح مرح ووصفي للقاء الباحث والفنان، إلى خطاب مسكون بالقتامة حين تحفر المؤلفة في نتائج هذا اللقاء، فهي ترى أنه ما إن يلبس الفنان ثوب الباحث حتى "يتسمّم" كلاهما، وفي صورة أكثر قسوة تقول بأن "فنان اليوم بات أقرب إلى موديل في مرسم الباحث"، وبذلك باتوا يرسمون أنفسهم أكثر مما يرسمون العالم. ربما يصح في ذلك قول ابن حزم في سياق بعيد تماماً: لقاء الفنان بالباحث أوّله هزل وآخره جد، بل مأساة...

المساهمون