كلُّ كتابةٍ عن العصر الجاهلي هي إعادةُ تناولٍ ومركزة لمفهوم البطولة بوصفها عصراً، لو استعرنا ذلك من الزمن الإغريقي - وإن كان يرى البعض في هذه الاستعارة مشكلاتٍ عدّة طبعاً، شأنها شأن عموم الاستعارات. وكلُّ سيرة تسرّبت من ذلك العصر تأسطَرت، فنحن لا نقرأ شعراً ولا نتعامل مع أُناس يحتكمون إلى شروط التوقُّع بقدر ما يتواطؤون مع المفاجأة. فالفجيعة حمولتُهم، والمصائر عندهم ليست أقلّ من أثَرٍ كلّما رُوي خِلتَ أنّك تسمعُه للمرّة الأولى، لِما يتكثّف فيه من اجتماع الخشونة والرهافة في آن، صفتان تضمّهما وحدة لغوية مُفضية إلى ذاتها، حتّى أنّ السيف، آلة الخشونة ومثالُها، استبدّ عندهم بأرقّ الصفات فصار "مُرهفاً".
هذه الثنائية أي: الخشونة والرهافة، والتي تختزن الكثير من الإشارات الأنثربولوجية والنفسية، سرعان ما التُقطت في الاشتغالات النقدية المعاصِرة على شعر وأعلام تلك الفترة، بدايةً من قوسٍ طويلة عريضة مثّلها مُستشرقون ورومانسيون، مروراً بطه حُسين ثمّ شوقي ضيف وتيار المؤرّخين المدرسيّين، ثمّ ريتا عوض وكمال أبو ديب ونصرت عبد الرحمن وغيرهم من عموم الأسلوبيّين، وأخيراً مع العمل الأدبي الذي وقّعه الكاتب والشاعر الفلسطيني وليد سيف (1948) بعنوان "الشاعر والمَلك"، وصدر روايةً عن "الأهلية للنشر" بعمّان.
سبق لسيف أن تناول الموضوع نفسه، سيرة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، في عمل تلفزيوني عام 1982، إلّا أنّ هذه العودة إلى طرفة الرمز والمأساة بعد أربعين عاماً، لا تبدو وكأنّها استدراكٌ على جوانب مفوّتة، أو وقوفٌ على أطلاله، إنّما هي العودة إلى المثال الواحد. إذ ليس صحيحاً أنّ المنطلقات والأسانيد في عالم الأدب تحتكم إلى قانون الكثرة، فالأدب عند سيف، بل الأدب بالتاريخ إن صحّ التعبير، هو تمثيلٌ على تلك الرؤية، وهل أدلّ على ذلك من "ثلاثية الأندلس"؟
سيرة بطولية عن شاعر تكثّفت في زمانه الخشونة والرهافة في آن
الاحتدام الذي يُمازج العنف، كذلك كان موقف طرفة الشاب من العالم، الطاقة الفائضة حتّى الفنّ لا يكفيها، وحدها المأساة مآلُ النبوغ المبكّر ودليلُه، وكلّ استمرارية هي فعلُ مهادنةٍ واقعية، هذا مُلخّص الأمر من وراء أسطورة طرفة وخاله المتلمِّس. لكنّ التاريخ عند سيف لا يُعرّي الأسطورة منطقياً، وإنْ حرص أيّما حرص على إبقاء النص مشغولاً بسحريّة ما، وهذا ليس بالأمر السَّهل في كتابة التاريخ أدباً عموماً. فإذا أضفنا إليها شرط الكتابة بالعربية بشكلٍ خاصّ، ومجهود الانفتاح على المدوّنة التراثية التي ينهل النصّ من مصادرها، نجدُ أنّ العملية قد تحوّلت إلى اختبار معرفي في المقام الأوّل، وهذا ما برهن عليه صاحب "التغريبة الفلسطينية" بتمكّن الخبير.
وكالاحتدام الذي صاغ حياة الشاعر ورسّخ اسمه طريداً "مُتحامَى" بين ظهراني القبيلة، يأتي الإعدام ليكلّل مسيرته وخاتمته. حكمٌ يظهر في رواية سيف بأنّه أشبه ما يكون بفعل التطهّر والخلاص، وهذا ما يجعل القارئ يتشكّك في ماهيّته، إن كان انتحاراً أو قاب قوسين منه؛ ليس المَلكُ حقّاً مَن أصدر الحُكم، إنّما هو الواقع والعالَم الذي لم يعد صالحاً لا للشعر ولا للحبّ، أوَليسَ مِزاجُ هذين الأخيرَين هما سبب مقتل الشاعر؟ "ألا يا ثاني الظبي/ الذي يبرقُ شنفاهُ/ لولا المَلِكُ القاعدُ/ ألثمَني فاهُ".
في حوار له مع أحد المواقع الإلكترونية الإيطالية، يجيب الباحث الفرنسي، ومترجم المعلّقات وصاحب "العاشق والصعلوك" (2012)، بيير لارشيه، عن سؤال محاوِره؛ إن كان طرفة بن العبد ما زال مَثار إلهام وراهنيّة لحياة أوروبية معاصِرة، حيث يجسّد المثال الحداثي عن الفتى الدنيوي المنغمِس باللّذة وفتنة الجسد. وبغضّ النظر عن إشارة لارشيه إلى أنّ النموذج الأوروبي قد تجاوز هكذا أمثلة اليوم، ولم يَعُد بحاجة إليها، إلّا أنّه أصرّ في إجابته، على ضرورة النظر إلى تاريخ ما قبل الإسلام بوصفه موضوعاً راهناً.
تحمل الرواية ميراثَ المواجهة مع المُلك العضوض في تكوينه الأوّل
سواء اتّفقنا أم اختلفنا مع لارشيه ومع ما يرمي إليه، إلّا أنّ الحديث عن الراهنية يقود إلى الخوض في الجانب المسكوت عنه من التاريخ. ولمّا كان صاحب "أصحوتَ اليومَ أم شاقتكَ هِرْ" في قلب هذا المسكوت عنه، فمن الأهمّية والراهنية المُلحّة أن يتولّى قلمٌ مثل وليد سيف تقديم هذا المسكوت عنه لقرّاء العربية، وإلّا تولّت هذا المثالَ أقلامٌ لا حظّ لها من معرفة ولا نصيب من انتماء، إنّما تسعى فقط إلى تأصيل ما يستحيل تأصيله. وهذا ما نُطالعه من تأويلات مُختلَقة ومُنبَتّة في روايات أبطالُها متصوّفة، وأعمال أدبية ودرامية لا يتعدّى فهمها للمسكوت عنه أو التاريخ عامّةً سوى تلك النظرة الفيتيشية الفضائحية.
بالعودة إلى ثنائية الخشونة والرهافة وأثرها في العنونة البسيطة للعَمل، في ظلّ تنامي العنونات المعقّدة والصارخة للأعمال الأدبية، فإنّ القارئ يلمس ويستشعر علاقة التعاطف بين حدّي العنوان: الشاعر والمَلك، كلَّ ميراث لحظة المواجهة بين ما كان هادي العلوي يسمّيه بـ"اللقاحية" - أي المشاعية تقريباً - وبين المُلك العَضوض وإن كان بمرحلته الجنينيّة. بذا تكون الرواية هي رواية المواجهة مع السلطة، مع التنبيه إلى أنّ السلطة لا تسعى إلى تلزيم معارضيها بكلّ هذا القَدْر من البطولة، وتخشاهم حتى بعد موتهم.
تُتوِّج "الشاعر والمَلك" رؤية وليد سيف عن جدلية التاريخ والأدب، وهي إذ تقارب موضوعة السلطة والعلاقة بها في عصر لم تتبلور فيه بعد هيئةُ الدولة ــ كما في أعماله اللّاحقة التي تناولت الموضوعة نفسها إنّما بمرحلة أعقد ــ فهذا ما جعل حوارات أبطالها تُصدَّرُ ببلاغة الموقف، بعيداً عن الاستعارات التي تُطالعنا في أعماله التاريخية الأُخرى التي تحضرُ في خلفيّتها مقولاتُ السياسة الشرعية، ودهائيات الآداب السلطانية، وبطبيعة الحال النظر الخلدوني بأطوار الدولة. على العكس من كلّ هذا، فإنّ "الشاعر والمَلك" تتشاكل مع روح موضوعها، وتعود إلى مثالها ــ ولو بعد حين ــ لتكتبه فنّاً روائياً مستمدّاً من صلب الواقع وراهنيّته، بعد أن روته صورةً تلفزيونية.