"الحداثة السوداوية": بالقرب من شارل بودلير

10 نوفمبر 2021
رسمان لبودلير (يمين) ورامبو في مدينة شانلو ليفين بفرنسا، 2021 (Getty)
+ الخط -

رغم كثافة النشاط الشعري ووفرة الشعراء في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي شهد ولادة ما يُعرَف بالحداثة الشعرية، الراغبة في تجاوز الرومانسية، إلّا أن أغلب النقّاد والمؤرّخين المهتمّين بهذه المرحلة، وبالتطوّر الذي عرفته القصيدة خلالها، يحيلون هذه الحداثة إلى اسمين: آرثر رامبو (1854 ــ 1891)، وشارل بودلير (1821 ــ 1867).

وإن كانت تجربة رامبو وإضافته إلى هذه المرحلة من تاريخ الشعر الفرنسي قد تمثّلت في تحويله القصيدة إلى مكان للتعبير عن رؤيةٍ جديدة، وفي جعل الشاعر لسانَ حالٍ لما يُدْرَك لكنْ يصعب قولُه أو معرفته، فإنّ بودلير قد انشغل، بدوره، بالحفر في معاني الجمال، والحقيقة، والوجود، وغيرها من المفاهيم التي بحث عن التقاط حقيقتها وقولها شعرياً.

"بودلير، الحداثة السوداوية"، هو عنوان معرض انطلق في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في "مكتبة فرنسا الوطنية" بباريس، حيث يستمرّ حتى الثالث عشر من شباط/ فبراير من العام المقبل، ويهدف إلى إطلاع زوّاره على عوالم الإبداع البودليري، وكذلك على مساره وهواجسه الشخصية.

يأتي المعرض بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد صاحب "أزهار الشرّ"، وهو يضمّ عدّة أقسامٍ يسعى كلّ منها إلى الكشف عن جانب من تجربته، حيث تستعين المكتبة بعشرات القطع (مسوّدات، نسخ من كتب قُبيل الطباعة، صور، لوحات، رسائل، رسومات)، التي تكشف عن شخصيته الثائرة على زمانها، وعن تأزُّمه أو قلقه الوجودي.

هذا القلق، يأتي القسم الأوّل من المعرض ليُضيء عليه، حيث يجد الزائر نفسه أمام مسارٍ يكشف له عن إحساس الشاعر بالغربة وعدم عثوره على مكان له، ليس في مدينته أو بلده فحسب، بل في الوجود بشكل عام، وهو ما يدعوه إلى التنقّل والبحث باستمرار عن نقطة أو مكان أو طريقة رؤية قد يعثر فيها على نفسه. 

كما يعرّج هذا الجزء على التزامه السياسي الذي لم يدم طويلاً مع ثوريّي عام 1848، وعلى علاقاته العائلية، مع إيضاح لحضور هذا القلق، وهذا التمزُّق، في عمله الشعري الذي تتكرّر فيه ثيمات الغربة، والخسارة، والضياع، والإحساس بضرورة البحث عن شيء أو عن مكان قد لا يكون له، في المحصّلة، أيّ وجود.

ويستكمل الجزء الثاني من المعرض سؤال الوجود هذا، إذ تساعد الصور والنصوص والمقتنيات المعروضة في إطلاع الزوّار على قناعة الشاعر باستحالة الاتحاد تماماً مع هذا العالم، وعلى "وعيه الشقيّ"، كما قد يقول فيلسوفٌ مثل هيغل، بسوداوية الشرط الإنساني وبمحدوديّة الحاضر، مكاناً وزماناً، وهو ما يدعوه إما إلى استحضار الماضي، أو إلى الكتابة عن أماكن بعيدة وغير مألوفة، في سعيٍ لتجاوز هذه المحدودية.

أما آخر أجزاء المعرض، فينتقل من علاقة بودلير بالعالم إلى علاقته بنفسه، وهي علاقةٌ لا تختلف كثيراً عن سابقتها، حيث يجد الشاعر نفسه غريباً على نفسه، وغير متّحدٍ معها، بل إن هذه المسافة بين المرء وذاته ستصبح، لديه، أحد معايير الجمال والقدرة الشعرية، وهو يُعطي لهذه الظاهرة اسم "السوداوية"، قائلاً إنه، مع عدد من الشعراء والكتّاب مثل شاتوبريان وتيوفيل غوتييه، يشكّلون "أكبر مدرسة للسوداوية" عرفتها فرنسا.

المساهمون