اختتمت، مساء اليوم الأحد، أعمال مؤتمر "الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستّين" الذي نظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، وتناول فيه الباحثون، على مدار يومين، هذه الثورة (1954 - 1962)، معيدين قراءة مسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها، علماً بأنّ الأوراق البحثية سيجمعها كتاب يصدره "المركز العربي".
مفتتح جلسات اليوم جاء بعنوان "الثورة الجزائرية برواية فاعليها"، وطرحت فيها فاطمة الزهراء قشّي، أستاذة التاريخ في "جامعة قسنطينة" ورقةً عن "منهجية تدوين شهادات الفاعلين المحليّين في الثورة الجزائرية".
بلسان الفاعلين
أبرز نموذج في ورقتها كان كتاب دحّو جربال، والذي صدر في جزأين: "لخضر بن طوبال: مذكّرات من الداخل" و"استعادة الاستقلال"؛ وهو العنوان الذي فضّلت المحاضرة أن تكون ترجمته من الفرنسية "التمكّن من الاستقلال"، لأنّ ما وقع كان تمكّن "جبهة التحرير الوطني" من الوصول إلى السيادة، لا استعادة السيادة.
والمذكّرات، هنا، تخص لخضر بن طوبال (1923 - 2010)، وهو شخصية قيادية وأحد أعضاء "مجموعة 22" التاريخية التي فجّرت الثورة الجزائرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1954. سجّل جربال المذكّرات خلال خمسة أعوام بين 1980 و1985، على لسان طوبال الذي سيُصاب بجلطة دماغية في عام 1986، وسينتظر الكتاب أربعين عاماً قبل صدوره بسبب عقبات رسمية وعائلية.
تُدافع الباحثة عن الشهادة الشفوية بوصفها اعترافاً وعرفاناً وتحريراً للكلمة من صمتها، وتقديراً لمكانة التجربة الفردية في النضال والثورة لدى كتابة تاريخ ملحمة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
ولفتت قشّي إلى أنّه كثيراً ما يُفسَّر اللجوء إلى جمع الشهادات بغياب الوثائق المكتوبة التي تُدوّن الأقوال والأفعال، وللنظر إليها بوصفها المصدر الأكثر وثوقاً، لكنّها ترى أنّ القراءات والتجارُب تكشف أن المَحاضر والتوجيهات المكتوبة لا تُغني عن معايشة المناضلين للأحداث، ومع المسؤولين أو مع من هم تحت مسؤوليتهم.
القطيعة والتواصل
هل كان الانتقال إلى العمل المسلَّح في الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 قطيعةَ مع الماضي، أي مع الأحزاب السياسية الفاعلة آنذاك، أم أنّه كان استمرارية لهذه الأحزاب، وخاصّةً للتيار الاستقلالي منها؟
حاول أحمد صاري، الباحثُ المختصّ بتاريخ الجزائر المعاصر، مقاربة هذا السؤال من خلال ورقته "الثورة الجزائرية ما بين القطيعة والتواصل: قراءة في شهادات ومذكّرات بعض الفاعلين".
تناوَل صاري الجدليةَ التي أفرزتها الثورة الجزائرية، والمتعلّقة بمفهومَي القطيعة والتواصل. ومفهومُ القطيعة هذا كرّسَه الخطاب السياسي لما بعد الاستقلال، في حين يرى اتجاه آخر أنّ الثورة الجزائرية ليست منفصلة عمّا سبقها من مجهودات الحركة الوطنية، بل هي حلقة متّصلة بها.
بناءً عليه، قدّم الباحث عرضاً تاريخياً لفترة ما قبل الثورة، مُركّزاً خصوصاً على بعض الأحداث التي "شكّلَت منعرجاً حاسماً في التوجُّه الثوري" للعديد من الشخصيات التي سنجدها في الصفوف الأولى للثورة، ومن أبرزها مجازر الثامن من أيار/ مايو 1945 وتأسيس منظّمة سرية شبه عسكرية مهمّتها التحضير للعمل المسلَّح.
لكنّ المؤرّخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني دعا في مداخلة له إلى عدم الوقوف في المنتصف؛ فهو يميل إلى أنّ هناك قطيعة حتمية بين ما قبل الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 وما بعده، مبيّناً أنّ أحداث الثامن من أيار/ مايو 1945 فرزت الوصوليّين والانتهازيّين وبقيت الجماعة الصلبة، بمعنى أنها لم تكن سبباً في اندلاع الثورة بل كانت عامل "تمحيص الصفوف وإخراج الذباب المتهافت"، على حدّ قوله.
وفي تعليقه على ورقة فاطمة الزهراء قشّي، تساءل: لماذا رفضت عائلة بن طوبال نشر مذكّراته، بما قد يجرّ جربال إلى المحكمة؟ لافتاً إلى "أنّنا أصبحنا رهائن مواقف شخصية، بينما نحتاج إلى المذكّرات لقراءة الثورة في بعدها الحقيقي".
الثورة في الذاكرة الفرنسية
من جهته، قدّم الباحث الجزائري مسعود ديلمي ورقة بعنوان "إشكالية التأريخ لحرب الجزائر وذاكرتها في فرنسا" تناول فيها موضوع الكتابة التاريخية والذاكرة الفرنسية لحرب الجزائر كظاهرة تفاعلية، بشرح سياقات مسارها الذي فرضته تناقضات المجتمع الفرنسي، بإعطاء أهمّ توجهاتها وتناول أهمّ مراحلها، وإظهار صداها وتأثيراتها في الإنتاج التاريخي العلمي.
بحثت الورقة في كيفية تأثير هذه الجدلية ونتائجها على المستويين الشعبي والرسمي، مستعرضةً كتابات وشهادات ومذكّرات وأطروحات الباحثين الأكاديميّين الفرنسيّين عن تاريخ حرب التحرير الجزائرية، عبر تحديد مراحل تبدو أساسية، بالاعتماد على إنتاج وكتابات أهم الفاعلين.
الإنكار والاعتراف
خصّص خالد منّه، كبير الباحثين في "مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي للتنمية" بالجزائر ورقته لضحايا تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، التي ارتكبتها قوّات الأمن الفرنسية ضدّ متظاهرين جزائريّين في باريس.
وسلّط الباحث، في الورقة التي حملت عنوان "من الإنكار إلى 'الحادثة التي لا تُغتفَر': ضحايا تظاهرات 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961 في انتظار الاعتراف"، الضوء على تعامُل السلطات الفرنسية مع الواقعة عبر الزمن، من الإنكار التام إلى اعتبارها "حادثة لا تغتفر"؛ حيث كشف كيفية تعامُل الحكومة الفرنسية مع ذكرى التظاهرات وضحاياها، والدوافع التي جعلت فرنسا تُراجع نظرتها وتعاملها مع هذه الأحداث، من محاولة تقزيمها إلى التنديد بها، دون الوصول إلى درجة الاعتراف.
فرق المهاري
أعاد أحمد بوسعيد، الأستاذُ المُحاضِر في كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية بـ"جامعة أدرار"، إلى "فرق المهاري الصحراوية" وكيف استعملها الاستعمار وراهن عليها لتقويض الثورة الجزائرية.
وفرق المهاري هي أشهر الوحدات العسكرية الصحراوية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي بالصحراء الجزائرية، من أجل مساعدته في التوغُّل إلى أعماقها، بعد فشل تلك المحاولات التوسُّعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الرغم من تسخير إمكانات هائلة للبعثات الاستكشافية.
المهاري أو "شرطة الصحراء"، رافقت السياسة الاستعمارية الفرنسية بالصحراء الجزائرية من الاحتلال إلى الاستقلال.
أشار الباحث هنا إلى ما قدّمته هذه الوحدات للفرنسيّين من خدمات لوجستية في أوّل الأمر، ثم تباين أداؤها خلال مرحلة الثورة التحريرية، تبعاً للمستجدّات العسكرية والسياسية، المميّزة لتلك المرحلة الحرجة من التاريخ الجزائري المعاصر، ومحاولات هؤلاء المجنّدين مساءلة الذوات ومسايرة التطوُّرات.
وخلص بوسعيد إلى إنّ البحث في مثل هذه المواضيع من جوانب مصدرية تأصيلية حريٌّ بأن يساهم في إماطة اللثام عن حقبة مهمّة من تاريخ الصحراء الجزائرية، ويتيح للباحثين منافذ جديدة لفهم وتأويل معارف سابقة، من ذلك تأكيد حقيقة خسارة الرهان الفرنسي على العديد من المشاريع المادية والمعنوية الرامية إلى تقويض مسيرة الثورة الجزائرية.
جوانب من الفاعلية المحلّية
ركّزت ورقة عبد السلام كمّون، المتخصّص في التاريخ الحديث والمعاصر، على إشكالية داخلية للثورة الجزائرية، تتمثّل في الصراع بين السياسي والعسكري.
وعاين الباحث نظرة شباب اليوم، وخصوصاً المثقّفين منهم، إلى هذا الصراع الذي وصل إلى حدّ الاقتتال والتصفية الجسدية، وظلّ قائماً طوال مراحل الثورة وصولاً إلى أزمة صائفة 1962 التي كادت أن تدخل الجزائر عقب استقلالها في حرب داخلية، ولا يزال هذا الصراع يُلقي بظلاله على الدولة الجزائرية إلى يومنا هذا.
معركة التدويل
بين عامَي 1954 و1961، خاضت "جبهة التحرير الوطني" معركةً دبلوماسية ضارية من أجل تدويل المسألة الجزائرية التي كانت تصفها فرنسا بأنها مجرّد أحداث داخلية.
عمر بوضربة، أستاذُ التاريخ المعاصر في "جامعة محمد بوضياف" بالمسيلة، تناوَل هذه الاستراتيجية، قائلاً إنّ مسألة تدويل القضية الجزائرية على مستوى الجمعية العامة للأمم المتّحدة كانت أَولى أولويات السياسة الخارجية للثورة الجزائرية منذ بيان الثورة الأوّل.
وأضاف أنّه بعد التعريف بأبعاد القضية الجزائرية وبطبيعة الثورة، وحشْد الدعم من أقرب الحلفاء الطبيعيّين للشعب الجزائري، وهي الدول العربية والدول المستقلّة حديثاً، انطلق الوفد الخارجي منذ وقت مبكر في اتجاه كواليس الجمعية العامة، من أجل دحض أطروحات الحكومة الفرنسية.
الفضاء الغربي
فحصت ورقة علي تابليت، أستاذُ التاريخ الحديث بـ"جامعة الجزائر"، الثورة الجزائرية في الإعلام الأميركي في أثناء إدارة دوايت أيزنهاور الذي كانت حكومته تساند فرنسا، خاصة في منظّمة الأمم المتحدة، وتزوّد فرنسا بطائرات الاستكشاف "الطائرة الصفراء" التي ترد في أغنية شعبية جزائرية، غير أن السيناتور جون كينيدي، عارض سياسة آيزنهاور فألقى خطاباً في الثاني من تمّوز/ يوليو 1957 أيّد فيه استقلال الجزائر، ما أثار غضب فرنسا.
أمّا في الجانب الإعلامي، فقد تطرّقت الورقة إلى أهمّ ما ورد في الصحف الرائدة في تلك الفترة ومواقفها المتباينة تجاه الثورة الجزائرية، وهي مواقف تتماشى مع المصالح الفرنسية ومستوطنيها، بدعوى أنّ الجزائر لم تكن موجودة قبل الاحتلال الفرنسي، متناسين أن الجزائر كانت دولة ذات سيادة، وأنّ فرنسا عقدت معها 49 معاهدة قبل الاستعمار، كانت أُولاها في عام 1619.
الرؤية وتبرير الموقف
"حرب التحرير الجزائرية في التقارير الدبلوماسية والكتابات الأكاديمية الأميركية: بين إشكالية الرؤية الموضوعية وتبرير المواقف" هو ما ناقشه محمد مزيان، أستاذ التاريخ المعاصر في "جامعة ابن طفيل "بالمغرب.
جاء في الورقة تحليل الموقف الأميركي من حرب التحرير الجزائرية، اعتماداً على وثائق وزارة الخارجية الأميركية وعلى بعض الدراسات الأكاديمية الأميركية، في محاولة لاستجلاء خصائص الرؤية الأميركية وقراراتها من مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة، تندرج ضمن مرحلة تصفية الاستعمار، كما تفاعَلت خلالها عدّة أطراف مختلفة التصوُّرات والأيديولوجيات والمصالح.
وقال مزيان إنّ المرحلة شهدت تقاطبات عدّة، ما فرض على الإدارة الأميركية أن تظهر بمظهر المعتدل الراعي للسلام، وهو الموقف الذي دفعها إلى التردّد والتذبذب في اتخاذ المواقف.
وعليه، دعا الباحث إلى الانفتاح على الأرشيف الأميركي، بما من شأنه أن يساعد على تجاوز النظرة الثنائية للعلاقات مستعمِر - مستعمَر.
وخلصت الورقة إلى أنّ فهم موقف الإدارة الأميركية من حرب التحرير الجزائرية يتجاوز التحليل البسيط للعلاقات الدولية، وكذا المبادئ المؤسّسة للسياسة الخارجية الأميركية ومقتضيات الحرب الباردة، مشيراً إلى التنافس الخفي بين فرنسا وأميركا على قيادة حلف الشمال الأطلسي، والمصالح الاقتصادية والأميركية في المنطقة.