بحضور من سمّتهُم "أهلَ الكتابة والأدب في الجزائر"، أطلقَت وزارة الثقافة، السبت الماضي في "قصر الثقافة" بالجزائر العاصمة، ما تُسمّيه "البرنامجَ الوطني للنشر المرتبط بالاحتفالات المخلّدة لـ ستّينية استرجاع السيادة الوطنية".
ما فحوى هذا البرنامج؟ وما هي آليات تنفيذه؟ وما عددُ العناوين التي ستُنشَر في إطاره وما طبيعتها؟ وهل ستقتصر على الكتابات التاريخية أم تشمل مجالاتٍ أُخرى؟ ومتى يبدأ هذا البرنامج وإلى متى سيستمرّ؟ وهل يُقصد بحفل "إطلاق البرنامج" البدء في استقبال المشاريع؟ أم البدء في نشرها (يُفترَض، في هذه الحالة، أنّه جرى استقبال المشاريع ودراستها في وقت سابق)؟
والأهمّ: هل مِن خُططٍ تضمن عدم تكرار ما حدث مع برامج النشر الحكومية التي أُطلقت في مناسبات مختلفة خلال السنوات الماضية، ولم يكُن الأمرُ برمّته سوى فرصة لنهب المال العام، وكانت النتيجةُ القليل من الكتب الجيّدة والكثير من الكتب الرديئة، والمرسكَلة، والكثير مِن دُور النشر الوهمية؟
هل من خطط تضمن تجنُّب ما حدث مع برامج النشر السابقة؟
نقرأ مِن منشورٍ على صفحة الوزارة على فيسبوك مقتطفاً من كلمةٍ لوزيرة الثقافة، صورية مولوجي، ألقتها بالمناسبة، تُخبرنا فيه أنّ البرنامج يتضمّن "نشر 100 عنوان تتوزّع على الرواية التاريخية باللغتين العربية والأمازيغية، وعلى كتب الأطفال وقصصهم التاريخية، وحول أعلام الجزائر، وهي منشورات سيتمّ طبعها في شكلها الاعتيادي وبتقنية البْراي أيضاً، كما تتضمّن هذه العناوين كتباً فاخرة تليق بتاريخ الجزائر ومجدها".
لا يُجيب هذا الكلام تقريباً سوى عن الجزئية المتعلّقة بكمّ العناوين التي ستُنشَر ضمن "البرنامج الوطني للنشر المرتبط بالاحتفالات المخلّدة لستّينية استرجاع السيادة الوطنية". وربّما سيكون علينا وضعُ خطّ تحت عبارتَين وردتا فيه: "الرواية التاريخية"، و"الكُتب الفاخرة".
تُشير العبارة الأُولى إلى وجود سوء فهْمٍ ما، أو بعبارة أُخرى إلى خلطٍ بين الأدب والتاريخ. فإنْ كانَ البرنامجُ مُنفتحاً على جميع أشكال الكتابة البحثية والإبداعية، فلماذا يقتصر على "الرواية التاريخية" دون غيرها؟ وإنْ كان خاصّاً بالأبحاث والدراسات التاريخية، فإنَّ "الرواية التاريخية" ليست بحثاً ولا دراسةً تاريخية.
تبدو المكتبات العمومية مخازن لما نشرته مشاريع حكومية
أمّا "الكُتب الفاخرة" - والتي تُحيلنا (في استخدامها الجزائري على الأقلّ) إلى تلك الكُتب سميكة الورق، ثقيلة الوزن (أقصد الوزن الذي نقيسه بالكيلوغرام)، مُكلفة الطباعة، باهظة الثمن، والتي لا تُطبَع ليشتريها القارئ العادي، بل لتذهب إلى المؤسَّسات الحكومية وغير الحكومية وينتهي بها الأمرُ قطَع زينة في صالوناتها - فمِن الغريب أن تربط الوزيرةُ "تاريخ الجزائر ومجدها" بها.
بإمكان الوزيرة أن تتحدّث - بدل ذلك - عن الكُتب الجيّدة شكلاً ومضموناً، وبإمكان فريقها أنْ يفكّر أيضاً (وهذا بديلٌ لفكرة الكتب الفاخرة التي لا يقرأها أحد) في برنامجٍ لإصدار طبْعاتٍ شعبية لكثير من الكتب القيّمة التي نُشرت على مدار ستّين عاماً الماضية (معظمها صدر عن دُور نشر حكومية) ولم تعُد نُسخُها متوفّرةً اليوم.
وهي تقف أمام "أهل الكتابة والأدب"، ستُخبرنا مولوجي بأنّ "الجزائر قطعت منذ الاستقلال أشواطاً هائلة في مسار البناء والتأسيس لمنظومة عريقة من المرافق والمؤسَّسات الثقافية والإبداعية، بداية بشبكة المكتبات العمومية التي تتوزّع على كل مناطق الوطن، إضافة إلى الهياكل الثقافية على غرار دور الثقافة والمسارح والمعاهد، مروراً بالبرامج المختلفة والمتعدّدة للنشر... وصولاً إلى حركة التوزيع لمختلف الكتب والمنشورات... في ظلّ السياسة الرشيدة والعناية الكريمة لرئيس الجمهورية السيّد عبد المجيد تبون"، وستعد بأنّها ستعمل "على تفعيل الدور المنوط بالمركز الوطني للكتاب وتكليفه رسمياً بمعاينة وتسريح وضعية النشر والإصدار في الجزائر، لإحداث نقلة نوعية في سياسة الكتاب".
مِن المؤسف التباهي بمنظومة ثقافية أثبتت قصورها، بدل الاعتراف بمشكلاتها واختلالاتها والعمل على حلّها. هل ينبغي أن نتساءل عن الدَّور الذي تقوم به المكتبات العمومية مثلاً، والتي تبدو مجرَّد مخازن لما نُشر في إطار برامج النشر الحكومية السابقة مِن كُتب رديئة ومرسكَلة؟ وهل تتوزّع على كلّ مناطق الوطن فعلاً (شخصياً أعيش في منطقة لا توجد فيها مكتبة عمومية ولا أيّ "مرفق ثقافي" آخر)؟ وهل ينبغي أنْ نذكّر بأنَّ الكُتب التي تصدر خارج الجزائر لا تصل إلينا، وأنّ التي تصدر داخلها لا تُوزَّع أساساً، وبأنّنا لم نبنِ مسرحاً واحداً منذ الاستقلال حتى عام 2016، ولم نبنِ مسرحاً آخر بعده؟ وأنّ ما نسمعه عن "المركز الوطني للكتاب" منذ سنوات ليس سوى وعود؟
ومِن المثير للسخرية أنّ يلتقي الكاتبُ "المعرَّب" والمفرنس، الجيّد والرديء، "التنويري" والرجعي، ليكونوا شهوداً على وليمة الأكاذيب التي لا تنتهي.