اختارت فرنسا الذكرى المائة لاقتحام سجن الباستيل والقضاء على النظام الملكي مناسبة لافتتاح الدورة التي فازت بتنظيمها في باريس من المعرض العالمي (إكسبو) في دورة عام 1889، وهو أمر استفز الملكيات الأوروبية قاطبة، وعدّته ترويجاً للثورة عليها، فقاطعته رسمياً ألمانيا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وهولندا، والبرتغال، وروسيا، والسويد، بالإضافة إلى السلطنة العثمانية. ولكن ذلك لم يمنع شركات خاصة، تنتمي لهذه البلدان، من المشاركة في فعاليات هذا المعرض الذي أرادت فرنسا من خلاله الظهور بمظهر الدولة الحديثة الرائدة، صاحبة المشاريع الصناعية، ورائدة الحلول الهندسية والميكانيكية الخلاقة.
افتتح المعرض في الخامس من أيار/ مايو 1889م، وشاهد الناس للمرة الأولى برج إيفيل كمعجزة هندسية غير مسبوقة في قلب العاصمة الفرنسية، وبدأ الزوار بالتوافد حتى زاد عددهم في نهاية المعرض، بعد ستة أشهر، على 32 مليون زائر، غالبيتهم من الجمهور العادي، وجزء لا بأس به من الكتاب والصحافيين والتجار ورواد الأعمال.
ومن هؤلاء رجل الأعمال الشامي ديمتري خلاط، المولود في مدينة طرابلس، شمالي لبنان الحالي، عام 1859م، والذي سطر أخبار رحلته في كتاب عنوانه "سفر السفر إلى معرض الحضر"، نشره في القاهرة عام 1891، وحققه الدكتور عيسى برهومة وفاز قبل أيام بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة عن فئة الرحلات المحققة.
وتذكر موسوعة البابطين أن حياة خلاط انقسمت بين مسقط رأسه طرابلس الشام، ومرقد جسده في مدينة الإسكندرية في مصر، وإن طوّف في أنحاء من أوروبا، ووصفها في كتاباته. وتشير الموسوعة إلى أنه تلقى تعليمه المبكر في كتاتيب طائفته الأرثوذكسية، حتى أتقن العربية والفرنسية والحساب، وفي مدرسة الأميركان العليا درس الإنكليزية والرياضيات والطبيعيات، واتسعت دائرة معارفه العربية. كما اتسعت دائرة علاقاته بالأدباء، وكان من أساتذته يعقوب صروف صاحب "المقتطف" لاحقاً.
غادر خلاط طرابلس في العام 1879 قاصداً الإسكندرية، وأصبح خلال سنوات من كبار الأثرياء الشاميين في مصر، ومع ذلك لم ينقطع عن الكتابة وقرض الشعر. وصدر له في أواخر حياته كتاب "خطرات الشعور" عن مطبعة جريدة البصير في القاهرة عام 1938، جمع فيه قصائده ومقالاته المنشورة سابقاً في الصحافة.
تنطوي هذه الرحلة على مشاهدات ديمتري خلاط في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، ولكنه يخص معرض باريس بالحيز الأهم، وسنتناول في مقالنا وصفه للمشاركات العربية في هذا المعرض، وهي مشاركات مشتتة بين عدة شركات خاصة، وانحصرت في العروض فلكلورية، والمشغولات اليدوية والحرفية.
من الإسكندرية إلى باريس
بدأ خلاط رحلته في الثاني من حزيران/ يونيو 1889 من الإسكندرية، حيث ركب باخرة نمساوية عبرت فيه عدداً من الجزر اليونانية حتى وصلت إلى ميناء برنديزي في جنوبي إيطاليا، ومن هناك استقل قطاراً إلى نابولي، وفي هذا الجزء من الرحلة يزور مدينة بومبي المنكوبة ويستطرد في وصف آثارها المحترقة بحمم بركان فيزوف. ومن نابولي يسافر بالقطار إلى روما التي أقام فيها عدة أيام وتحدث عن معالمها السياحية الشهيرة. ومنها إلى ميلانو ثم إلى سويسرا، فباريس.
ويحدثنا في بداية وصفه للمعرض عما سماه "أبنية العمران الإنساني"، وهو قسم تاريخي على ضفة السين يبدأ من كهوف الانسان البدائي مروراً بـ"بناء مصري قائم على أعمدة ظريفة ومسقوف ومدهون بألوان وضيئة، يدانيه بناء أشوري، ثم فينيقي، تتخلل الثلاث خيام البدو الذين ألفوا التأبد وأنفوا من التحضر". وبعد ذلك بناء العبرانيّين المبني على النمط المصري، ثم أبنية الأتروریين والبلاسجِ، ثم الهنود والفرس في زمن دارة، ثم أكواخ الجرمن والغوليّين القدماءِ، وبعد ذلك "الصرح اليونانيّ الغاية في الدقة، كأنهُ بني في عهد بريكلس، وكذلك بناء الرومان كأنهُ شيد على رُبى رومية في عهد القياصرة".
ويشير خلاط إلى وجود أبنية للصيادين في بلاد نرويج بالعصور الخالية، "ثم أمثلة من البناء الروماني والغوطيّ حتى عهد النهضة الأوروبيّة في إيطاليا وأوروبا، يعقب ذلك بناء الروس والنروج المظلمة من جو الشمال، وأبنية العرب، والحبشان الوضيئة من طلي الكلس والجير. وقد رام المهندس أن يعبث بالمناطق، فجمع بين البلاد التي تجمّد الجسم بصقيعها والتي تذيبهُ بنار حرها".
القسم المصري
ينتقل رحالتنا بعد ذلك للحديث عن الجناح المصري فيقول في وصفه: "القطر المصريّ جاری صاحبة السيادة الدولة العثمانيّة في رفض دعوة الاشتراك بالمعرض، لكنَّ الفرنسريّين المقيمين بالقُطر عديدون فراموا أن يكون لمصر نصيبٌ من المعرض، وتألفت لجنة للقيام بالعمل من أعضائها قناصل فرنسا في إسكندريّة ومصر وبورسعيد، واكتتبوا نفقات المشروع، وأنفقوا وافر السعي .. هيهات المال".
ويضيف: "فلما رأى البارون دلوره ده غليون قلّة ذات اليد، وعدم وجود المال اللازم لبناءِ شارع مصريّ في المعرض اتباعًا للرسم الذي عُقدت عليه الخناصر، لم ينثنِ عزمًا، فالتمس مدد المسيو شارل ده لسبس، الذي أنتخب رئيسًا فأمدّه هذا مع بعض أصدقائه الفرنسويّين في مصر بجانب من المال أعانة على بناءِ الشارع المذكور، الذي وقف عليه بنفسه، وبما أن الشارع المذكور خارجٌ عن قصر الصناعة، وغُرّةٌ من غرر المعرض فكاهةً وظرفًا، وكان محور اجتماع ومورد الشاردين ، سأفرد لَهُ فصلًا خاصًّا، أما قسم قصر الصناعة فلولا إقدام السوريين المصريّين على عرض صنائعهم به على نفقاتهم الخاصة لكان قفراً بلقعاً".
ويؤكد خلاط أن أهم المعروضات في القسم المصري هي "الأقمشة الحريرية والقطنية صنع بلاد الشام، والأثاث، والرياش، والبسط، والأواني النحاسيّة المنقوشة، والخشبيّة المحفورة؛ ممَّا اشتهر من صناعة برّ الشام في أسواق القُطْر المصريّ".
شارع القاهرة وسوق مراکش ومقصورة تونس
من أهم مواضع الترفيه التي تركت أثراً كبيراً لدى الجمهور الغربي ما سمي "شارع القاهرة"، وقد وصفه خلاط كما يلي: "سبق القول إنّ هذا الشارع كان آيةً في الظرف وقطبًا يدور عليه محور الأُنس، بُنِي على نسق شارع من شوارع القاهرة بزمن الخلفاء، وقد نقلت لبناء دوره أخشاب بيوت تقادم عليها العهد في مصر، فتداعت إلى الخراب، ودكت لتبنى على نسق البناء الحديث، فاشترى البارون ده لور هذه النوافذ والمشربيّات الخشبيّة والخراريج التي كانت تطل منها نساء القاهرة بدون أن ترى، وبنى بالمعرض بيوتًا تقلد تماماً بيوت المصريين منذ ثلاثة او أربعة أجيال، وجامعَين ومئذنة ومدرسة، والمئذنة شبيهة بمئذنة جامع قائد بك (قايتباي)".
ويقول إن المصمم "أناط بالجدران تماثيل تماسيح، وأبي هول جاءَ بها من مصر مع خزف قديم العهد، كان کاسياً قبة دار، وهو من أجود أنواع القيشاني، واكترى مئة وستين ولداً من قادة الحمير، نقلهم مع حميرهم إلى السوق المصري؛ فيركب الزائر الحمار ويحسب نفسه في أحد أسواق القاهرة، وكم كانت السيدات الإفرنجيّات معجبات بركوب الأتن، وكنَّ يتهافتنَ عليها تهافت الحمام على أغصان البان، راكبات ضاحكات سابقات لاحقات، فصار السوق بهنَّ مجری سباق، ومجرَّ حُبور، ناهيك عن الأولاد فكان هنالك مقامهم الهني الدائم".
أما السوق المصري فكان يتكون من "حوانيت للصّاغة، والحاكة، والفخَّارين، والمطعمين، والحفَّارين، والحلوائين، ومحال أنس وطرب، تشدو بها القيان وترقص الراقصات على النسق المصريّ، فتغصَّ بالزائرين، وتزدحم بها أقدام العواد، وللخواجة بولاد فضل وافر في إتقان مجلس أُنس عاد عليه بالثناء، وله بالربح الجزيل، ولعواده بمغنم الطرب والسرور".
ويخلص رحالتنا إلى أن هذا الشارع "بمجالس أُنسه وقهاويه ومناداة المؤَذّن بأوقات الصّلاة ونقرات الدفّ، والدربكة، وغناء الألحان الشجيّة، ومناظر الأباريق، والقُلل، والحصر، وبيّاعي عرق السّوس، وشراب الليمون، وراحة الحلقوم، يوهم حتى ابن مصر أنه موجود في شوارع القاهرة، حتى إن البعوض هاجر مع الحمير والحمَّارة تكميلاً للمرام، وما نقص سوى أشعة شمس مصر الساطعة".
بعد ذلك يحدثنا عن سوق مراكش المجاور للسوق المصري حيث يقول في وصفه: "يخفق عليه العلم المراكشيّ، والمصنوعات المعروضة به البسط، والأوشحة، والأغطية الصوفية، وأقمشة حريرية، وأكثر ما يرى في سوق المغاربة بإسكندريّة من أقمشة وجلود حتى المسوح والأخفاف، وشاهدنا به مجلس طرب تعزفُ به الآلات، وترقص فيه فتاة على نغمات اللحن المغربي، وطاهياً يطبخ المآكل المغربية وصناعاً ينسجون ويحوکون".
وفي وصفه للمقصورة التونسية يقول رحالتنا: "شادها بأمر باي تونس المهندس هنري صلاح الدين، الخبير بأحوال البناء التونسيّ، فجاء البناء في المعرض مقلداً تمام التقليد بيوت تونس، وواجهات المقصورة، منقول رسمها على واجهة قصر الباردو بتونس، وسوق الباي ودار الباي، أما الواجهة الخلفيّة فإنها ممثلة بناء القيروان القديم، ووسط المقصورة مقبوٌ، والقبة شبيهة بقبة جامع العقبة، وعلى الجانب روشن جميل، وهنالك باحةٌ فسيحة تصطف على جوانبها حوانيت الباعة، وتشبه بأمتعتها سوق المغاربة، وطباخٌ يطبخ المآكل التونسية، يلاصق دكانُهُ مجلس أنس تشدو وترقص به القيان على الزي التونسي، وداخِلُ المقصورة مقسومٌ إلى ثلاثة أقسام، الأيمن لمعروضات الزراعة، والأيسر لمعروضات الصناعة، والأوسط للآثار والرسوم، وأستغني عن تعداد الأقمشة، فكل من زار أسواق المغاربة في إسكندرية أو مصر أو إحدى مدن الشرق يعرف تلك المنسوجات الصوفيّة المتينة".
الجناح الجزائري
حول الجناح الجزائري يقول خلاط إن "الجزائر مستعمرة فرنسوية ضمت إلى أملاك فرنسا سنة 1830 مساحتها 378 ألف كيلو متر مربع، ويحدها شمالًا البحر المتوسط وغربًا مراكش، وجنوبًا الصحراء، وشرقًا تونس، ويبلغ عدد سكانها 3350000، منهم 270 ألف فرنسوي أو متفرنس، و190 ألفًا أجانب أغلبهم إسبانيون، والباقي عرب وطنيّون، وقد شاد هذا القصر الجميل المهندس بالو على نسق جامع الصيد في الجزائر، فجدران الباب والقبة مكسوة بالخَزَف مزخرفة على الذوق الشرقيّ، والمئذنة رائعة المنظر تشرف على حديقة غضة جمعت نباتات الجزائر الفاصلة ما بين القصر وسوق المغاربة، والسوق بحوانيته، ودكاكينه، كأنه أحد أسواق المغاربة في مدن المشرق، حتى إن ضيق الزقاق شبيه تماماً لأزقة الجزائر والمغاربة حيثما كانوا".
ويشير إلى وجود ثلاث قاعاتٍ فسيحة بالجامع "حاوية مصنوعات الجزائر التي تقدّمت في مضمار المدنيّة، ومن أهم حاصلات الجزائر الحبوب والخمر، وقد اعتنى الفرنسويّون في زراعة الكرم، بهذه البلاد، وفي غرس النخيل في القفار، مستنبطين المياه لها من أحشاء الأرض بواسطة الآبار الارتوازية، وبجانب الجامع رحبة بُنيت فيها القهاوي، ومجالس الأُنس، حيثما يسمع الزائر آلات طرب المغاربة، وغناء قيانهم، ويرى رقصهن، وكان بأحد القهاوي مشعوذ عربي يضرب أحد فكيه بالسيخ فيلمع من الفك الآخر، وكانت جموع الإفرنج من نساءٍ ورجالٍ كثيرة الاختلاف والتردد على هذه المجالس، لرؤية أعمال المشعوذ، وحركات الرقص المغربي".
إلى شيكاغو
لقد شكلت الأجنحة العربية في معرض باريس أكبر دافع لمتصيدي الفرص، والباحثين عن الربح السريع، فبدأوا يخططون لنقل هذه الأجنحة إلى معرض شيكاغو الذي عُقد بعد أربع سنوات من معرض باريس في عام 1893، فنجح متعهد يهودي أميركي يدعى سول بلوم بالتعاقد مع الفنانين الجزائريين للعمل في القرية التونسية الجزائرية في معرض اكسبو شيكاغو، في حين حصل المتمول اليوناني- البريطاني جورج بنغالو على امتياز القرية المصرية وشوارع القاهرة في المعرض نفسه.
ولكن الخديوي عباس حلمي الثاني (الصورة) الذي حضر فعاليات معرض اكسبو باريس، اشترط عليه ألا يستخدم المسجد لأي غرض آخر سوى الصلاة والعبادة، لأنه ما رآه في باريس ساءه كثيراً، حيث تحولت المسجد في الجناح المصري إلى مرقص. كما اشترط عليه دفع مبالغ تأمين للمصريين الذين سيسافرون، وأن يتعهد بإعادتهم إلى بيوتهم بعد المعرض، لكيلا يتكرر ما حصل معهم في معرض باريس، حين تركوا مشردين في شوارع أوروبا وصقيعها، حتى مات بعضهم جوعاً وبرداً، فيما تأخر وصول البعض الآخر عاماً كاملاً.