"أصحاب ولا أعز": ملوخية بذكاء متوسط

02 فبراير 2022
لقطة من الفيلم
+ الخط -

تحتاج مشاهدة اثنتين وعشرين نسخة من فيلم "غرباء تماماً" إلى عزيمة باحث، أو جلَد شخص لديه مستقبل طويل في السجن يجعله يرابط أمام أكثر من 34 ساعة سينمائية ويقول هل من مزيد؟ لا أحد منا - نحن الناس العاديين - لديه الوقت، لذلك يبدو الأصل الإيطالي (2016) الأكثر حظاً ليكون وحده عالمياً. الحسبة السينمائية تقول دائماً: 1+21.

وبكل اطمئنان سترى أي استنساخ حرفي خاسراً في المفاضلة معه، فالطليان هم أصحاب النار الأولى، القشعريرة الأولى، بينما آخرون افتتنوا بها إلى درجة الاستنساخ لا الاستلهام والاقتباس. اثنان وعشرون فيلماً بالفرنسية والكورية والهنغارية والإسبانية والهندية والروسية وغيرها، وصولاً إلى العربية على "نتفليكس" بعنوان "أصحاب ولا أعز". واللعبة باختصار: سبعة أصدقاء عليهم أن يتركوا على طاولة العشاء موبايلاتهم مشاعاً. المكالمات مفتوحة، والرسائل يقرأها ويسمعها الجميع. هذا ليس صندوقاً أسودَ نسمع به عقب حدوث كارثة طيران، إنما صندوق أسود ينفتح لكي تقع الكارثة.

موقع التصوير واحد في شقة واحدة، هو ذاته، قائماً على أكثر من كاميرا لرصد الانفعالات والقطع الحاد والسريع لجعل التصاعد الدرامي مبنياً على نص وسيناريو بسيط ومتوتر في حيّز مطوّق بالجدران. كما هو ذاته الواقي الذكري في حقيبة ابنة مراهقة، ومثليّ سمين مشترك في تطبيقة هاتفية للتمارين الرياضية، وطبيبة نفسية تسعى إلى عملية تجميل ثديين. واللعبة السينمائية تمارس حقها دائماً في بناء عمارة فنتازية، أو واقعية أفقية، أو واقعية متطرفة، أو خلطة من كل ذلك يكون الخيال فيها موهوباً.

ليست الملوخية في النسخة العربية هفوة بل منهجية عمل

وعند كثيرين، فإنهم لا يناقشون منطقية حدوث ذلك. إنهم يصدّقون افتراض حدوثه وهم يرجفون. ولم يعد أحد يحفل بسؤال هل قدمت هذه التكنولوجيا الهاتفية خدمة هائلة؟ الجواب: نعم. وهل غرّبت أرواحنا بعيداً منذ الثورة التكنولوجية؟ الجواب أيضاً: نعم.

من الصعب أن تجد زاهدين، بيد أنهم موجودون ونصافحهم باليد. لا أعلم هل غيّر الرسام السوداني الفذ إبراهيم الصلحي (91 عاماً) رأيه واقتنى موبايلاً. فقبل أزيد من عشر سنوات طلبتُ رقمه، فأعطاني رقم البيت في لندن قائلاً إنه بلا موبايل، لأنه لا يريد أن يكون عبداً.

الحكاية الأم إذن إيطالية وليست إيطالية. التكنولوجيا الموصومة هي هي ذات صبغة عالمية. فسبعة موبايلات- علامات تجارية قادمة غالباً من شرق وغرب الكرة الأرضية بالقسمة الحضارية الصناعية، تقدّم خدماتها لكل الشعوب بنفس الأزرار وباللمس.

لكن لعبة الفيلم الإيطالي هي بنت بيئتها، قدحت هناك، حتى لو كانت التكنولوجيا غير محلية. وفي أي مكان في العالم ستتحوّل هذه الأجهزة حين نقرر الانخراط في اللعبة، إلى شاشة بيضاء، ويحرجنا في الحد الأدنى الظهور عليها. الخيال الروائي البسيط والعميق ليس في الهزّة التي سبّبتها اللعبة بل في إمكانية أن تحدث أصلاً. 

من منا يسمح بوضع موبايله مفضوحاً أمام أصحاب حتى من فصيلة "ولا أعز"؟ كي نفاجأ من بعد بمجتمع منافق كذاب بألف وجه. الأمر يمسّ حقنا في الخصوصية، سواء كنّا في زمان قديم يتواصل فيه "الخونة" من الرجال والنساء عبر الحمام الزاجل أو زمن "مسِجات" معاصرة من طراز: اقرأ وامسح.

وبما أننا قبلنا سينمائياً فرشة الموبايل التي تستريح عليها كل البشرية أو تتعذب، فلنستلهم دون أن ننسخ. تابعتُ الفيلم الإيطالي أولاً واخترتُ من ثمَّ النسخة التركية، والكورية، والفرنسية، والعربية، والصينية.

استثن حركة رمي الموبايلات وسط الطاولة، فكلها جرت بنفس الطريقة، وانظر إلى اجتهاد الفيلم الصيني. نص الفيلم مختلف جوهرياً عن الإيطالي، وبه من العذابات ما يرضيك وزيادة، من تهتك العلاقات الأسرية واستغلال المرأة. وبدل المثلي كانت امرأة بلا صاحب، صُوّرت عارية تحت تأثير المشروب وتتعرّض للابتزاز. أما ابنة راعي المنزل فقالت لأبيها إنها ستنام مع أصدقائها، البنات وحدهنّ والشباب وحدهم، وكانت هنا تكذب.

في الفيلم التركي كان المثليّ، لكنهم حذفوا قصة الواقي الذكري واستبدلوه بالماكياج الثقيل لبنت على مقعد الدراسة، بينما حافظت النسخة الفرنسية على النص الأصلي ومثلها تقريباً الكورية. وحين تُذكر التجربة العربية في "أصحاب ولا أعز"، ونحن نستحضر هذه المقاربات السينمائية من ثقافات بعيدة ومجاورة، نجدها على "نتفليكس" حاضرة بصفتين: نشاط مفرط وذكاء متوسط.

على فرشة التكنولوجيا يجب أن تُعمِل خيالك الخاص. فالمهنيون المهرة يستطيعون تشغيل ماكينات التصوير وأجهزة الإضاءة، لكن الصورة بحسب عبارة مشهورة لا تخرج سوى من "رأس متفجر". غير أن الأسهل في حالتنا أن نذهب إلى "نتفليكس" بمشاعر لاجئ غير شرعي (أو غير نظامي بتسمية أخرى)، من الذين يرتمون على شاطئ البحر الغربي وأول ما يفعلونه هو تمزيق جواز السفر ثم طلب جرعة ماء من شدة العطش.

يذهب سينمائيون عرب إلى نتفليكس بمشاعر لاجئ غير شرعي

وأسوأ ما يطرح من أسئلة: هل تنكر أن لدينا مثليين؟ هل تنكر أن هناك أباً منفتحاً حتى إنه يدعم أن تجرّب ابنته المراهقة ليلة جنسية مع رفيقها في المدرسة؟ هل تنكر أن لدينا خيانات زوجية؟ لا أنكر. لكنني أنكر وأستنكر أن يقضي سبعة أصدقاء من طبقة ميسورة إلى حد ما سهرة نبيذ وويسكي في بيروت، وتدخل الصديقة المصرية (أداء منى زكي) ومعها طنجرة ملوخية وطنجرة رز وصينية أرانب (أو أنارب).

الكورية دخلت كما دخلت الإيطالية، حاملة طبق حلوى "تيراميسو"، بوصفها حلوى عالمية الآن، والتركية جاءت بكعكة منزلية، والفرنسية بكعكة شوكلاتة، والصينية، ببطيخة حملها زوجها.

كان يمكن بكل بساطة، إذا أردنا أن ندحش الكينونة المصرية في فيلم، إحضار طبق "أم علي"، وهو سريع وغير مكلف، بدل ملوخية لا تناسب البتة سهرة تحت خسوف قمر. المصريون أرباب الملوخية، لا يمكن أن يقدموها في مثل هذه السهرات، ناهيك عن العثور على أرنب في بلاد الشام لذبحه، وطبخه، وهو ليس جزءاً من مائدتنا كما تعلمون.

ورشة إنتاج الفيلم من كتابة النص إلى إخراجه، لم يرشح جبينها ولو قطرة إبداع واحدة. لماذا والحال هذه لم يدبلج الفيلم الإيطالي وينتهي الأمر؟ 

في النسخة العربية ليست الملوخية هفوة، بل طريقة شغل تسطّح المسطّح. الهفوة في السينما أن يظهر المخرج في انعكاس الزجاج عند التصوير، أو يُلمح طرف ساعة يد في فيلم تاريخي.

بماذا كان يفكر القائمون على الفيلم؟ من المستبعد أن تطلب "نتفليكس" منهم الإذعان حرفياً للأصل الإيطالي. هم وجدوا في المنصة الأميركية فرصة لإعادة إنتاج المنتج الإيطالي دون أن يضطروا لخلق نص بروح عربية، بذريعة أن الرقابة ستقصقص ما لا تراه ملائماً.

ويستفيد هؤلاء من نشوة قول أي شيء على منصة خارج الرقابة، حتى لو كان جعير سكران في بار محترم. هم يعلمون أن جزئية واحدة فقط، وهي قرار البنت أن تقضي ليلة مع رفيق مدرستها بإذن أبيها تحتاج إلى فيلم كامل، تكون فيه مبررة للمُشاهد. أما أن تأتي حرفياً من بيئة إيطالية إلى عربية فهذا مبتور وسمج وفقير الخيال. أعطني مجتمعاً صناعياً معقداً ينتج سيارة الفيات من الألف إلى الياء، ودولة قانون، وفساداً له مسارب ومؤسسات تكشفه، وعقداً اجتماعياً محمياً؛ ثم ادحش في فيلمه قضية ختان الإناث.. هل يمكن أن يستوي الأمر؟

من لفّق حكاية "الملوخية بالأنارب" لا يؤتمن فنياً على تناول قضايا أُخرى دقيقة وحساسة.

المساهمون