تعرض الصالات الفرنسية حالياً الوثائقي "سيتيزنفور" للمخرجة الأميركية لورا بويتراس. حاز الفيلم أخيراً على أوسكار أفضل فيلم وثائقي ويتضمن مقابلة مطولة مع إدوارد سنودن، الموظف السابق في "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" و"وكالة الأمن القومي الأميركي".
يبدأ فيلم Citizenfour مع توجه بويتراس مع صحافيي "ذي غارديان" إلى هونغ كونغ لملاقاة سنودن الذي كان قد تواصل معهم حتى ذلك الحين بواسطة الاسم المستعار "سيتيزنفور".
منذ اللقاء الأول في غرفة الفندق، وقبل أن يطّلعوا حتى على اسمه الحقيقي، يطلب منهم سنودن تفادي الأسئلة الشخصية، لأنه لا يريد أن يحرف شخصه الأنظار عن الموضوع الأساسي، لكن ابتداءً من تلك اللحظة، ترافقه كاميرا بويتراس مثل ظله، كما هو عليه الحال في سينما الواقع. وعلى الأرجح تكمن كل قوة الوثائقي في هذه المفارقة، وهذا المزج بين ابتذالية سينما الواقع وزخم الوثائقي السياسي المنغمس في قلب الحدث.
يلاحظ الناقد أوليفييه بوفليه أن سنودن يشتكي من ثقافة الإعلام المرئي المسموع وميله للتركيز على الأشخاص، لكنه يتجاهل واقع أنه دخل في لعبة هذا الإعلام منذ اللحظة التي فتح فيها الباب لكاميرا بويتراس.
مثل كل أبطال سينما الواقع، استثنائية سنودن تكمن أولاً في عاديته، في سعيه إلى تغييب شخصه، وفي تجنّبه التعبير عن أي قناعات شخصية غير تلك الشائعة والمتفق عليها في الشارع الديمقراطي. هو يلعب الدور المنوط به بامتياز، ويظهر بصورة الأميركي المتوسط الذي بمتناول أي مواطن نزيه أن يتماهى معه. هو البطل العادي المعجون من لحم ودم الحياة اليومية الذي، وفي مواجهة سياق استثنائي، يصنع حدثاً كونياً.
من جهة أخرى، يُنصح المصابون بالبارانويا أن يتجنبوا الفيلم. فها هو سنودن الخبير يرتاب بكل ما يحيطه من أدوات إلكترونية. هو يخشى أن تتمكن الاستخبارات الأميركية من التلصص على محادثته مع الصحافيين من خلال السماعة المغلقة لهاتف الفندق الداخلي، فيفصل عنه الطاقة. وحين يدوي رنينٌ خارج الغرفة، يشتبه أن يكون ذلك ناتجاً عن تلاعب الاستخبارات بأجهزة الفندق الإلكترونية، قبل أن يظهر أنّ الأمر لا يتعدى قيام الموظفين بتجربة جهاز الإنذار الخاص بالحرائق. وحين يدير جهاز الحاسوب، يضع غطاءً على رأسه كي لا تتمكن الاستخبارات من التجسّس عليه من خلال كاميرا الحاسوب المطفأة.
وبينما يتحدث سنودن مع الصحافيين، لا ينفك يسترق النظر إلى الخارج ليتأكد من أن لا أحد يراقب غرفته. يشعر سنودن أنه محاصر من قبل سلطة غير مرئية ترى كل شيء، ويتوقع أن تصل عاجلاً أم آجلاً إلى باب الغرفة.
تلعب بويتراس بإتقان على النقل والالتباس بين عين الكاميرا وعين المشاهد وعين الاستخبارات، رجل الاستخبارات سنودن خرج من تلك العين التي ترى كل شيء، عين الأنا المُراقِبة أو الأنا العليا بلغة فرويد، ليمثل أمام أعيننا. لكنه وبمثوله أمام كاميرا سينما الواقع غدا الأنا المرآة أو الأنا الآخر وانقلبت الأدوار، فنحن الآن نرى ما أفلت من عين الاستخبارات الأسطورية. نرى ما لا يرونه مع أنّه خرج من كنفهم، الأمر الذي ينقلنا إلى الموقع المقابل.
الوثائقي بهذا المعنى يجدِّد في طرح الإله المتجسِّد، الأنا العليا التي تتَبَرَّن (من برّاني) في أنا مرآة أو أنا آخر، وهو طرح عريق الحضور في الثقافة والأدب من الأساطير الإغريقية إلى فيلم "الأرض الأخرى" للمخرج الأميركي مايك كاهيل، حيث يتم العثور وراء الشمس على كوكب أرض آخر مطابق تماماً لكوكبنا يستطيع كل واحد فيها أن يكتشف أناه الأخرى.
عدا ذلك، الفيلم لا يضيف جديداً إلى ما سبق وتم فضحه في الصحف حول ممارسات أجهزة الاستخبارات الأميركية.
يكتشف المشاهد غير المطّلع أن كل أدوات الاتصالات الحديثة قابلة للاستخدام كأجهزة مراقبة، وأن شركات تكنولوجيا اتصال عابرة للقارات من أمثال غوغل وياهو وفيسبوك وآبل تسمح لـ "وكالة الأمن القومي الأميركي" بالتجسس على مستخدميها، وأن تلك الوكالة صارت بعد هجمات "11 سبتمبر" تراقب الحياة الخاصة للمواطنين الأميركيين على نحو شبيه بالحال في الأنظمة الديكتاتورية. وأنها تتعامل بصلف أكبر بما لا يقاس مع مواطني الدول الأخرى التي يهدف التجسس عليها، في معظمه، إلى تمكين الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأميركية ولا علاقة له بالإرهاب.
من الملفت أن سنودن يتجنّب التطرق إلى الدول العربية والتجسس على مواطنيها، ربما لأن الحجّة الأمنية هنا يصعب نقضها أو أنها مشروعة في نظره، إلا أنه يحق للمواطن العربي أن يفترض أنه في صدر "اهتمامات" الوكالة، ويسعه كذلك أن يأمل أن تظلّ ذكراه محفوظة في أرشيفها.