لطالما كان للتفكير الاستراتيجي تأثير كبير في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسات المحلية والدولية، كما ساعد على فك شيفرة العلاقات بين العالمين الاجتماعي والسياسي، وأصبح جزءاً من المشروع النقدي الذي يحلل الوضع الراهن ويحاول أن يغيّر من موازين القوى.
في هذا السياق يأتي كتاب "حرب واستراتيجية: نهوج ومفاهيم" الذي يضم دراسات مختلفة لباحثين وأكاديميين، وصدر الجزء الأول منه مؤخراً ضمن سلسلة "عالم المعرفة" بترجمة أيمن منير. فصول الكتاب المختلفة تعرّف القارئ إلى جيل جديد من الباحثين في هذا المجال، أفادوا من إرث الدراسات الاستراتيجية وبنوا عليه، وحدّثوا فيه؛ حيث تتشعب آراؤهم وتختلف وتتحاور بينها وتقدم وجهات نظر مختلفة.
فقد كانت الحروب ولا تزال الشغل الشاغل للعديد من الدراسات والأبحاث والكتب، التي يعود تاريخها إلى مئات السنين وتشمل كل الحضارات في بقاع وعصور مختلفة، وربما يكون أشهرها الكتاب الذي اصطُلح على تسميته "فن الحرب" للعسكري الصيني سون تزو. من هنا فإن الجانب الاستراتيجي منها سرعان ما شهد تطوراً في حقول البحث العلمي والأكاديمي والسياسي وحتى الفلسفي، وهذا ما يبحثه المشاركون في الكتاب.
يُعد العمل من أفضل المراجع المكتوبة بالفرنسية، القليلة في هذا المجال، حول موضوع الدراسات الاستراتيجية. تستعرض الفصول التاريخ الفكري لهذا الحقل وكيفية تطوّره عبر العصور، كما تتناول المفاهيم النظرية الرئيسية، وثمة جانب في العمل يقدم شبكة قراءة كاملة لقضايا الأمن الدولية، كما أن المساهمين فيه يكتبون عنه من حقول مختلفة، تاريخية وسياسية وقانونية واجتماعية.
شارك في الكتاب جوزيف هنروتين، وأوليفيه شميت، وستيفان تايات، ويذهب ثلاثتهم إلى أن هذا الحقل الدراسي معترف به بشكل كبير في الولايات المتحدة وبريطانيا، بينما ظل دائماً ممثّلاً تمثيلاً ناقصاً في فرنسا، ومرد ذلك وجود سوء تفاهم قديم ومتبادل بين الدوائر العسكرية والسياسية والأكاديمية، والمحافظة على هيكل جامد من التخصصات على المستوى الجامعي.
ما يقوله الباحثون الفرنسيون عن واقع الدراسات الاستراتيجية ودراسات الحرب في فرنسا، ينطبق بشكل أكبر على حال هذه الدراسات في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العربية، فعلى الرغم من أن هذه المنطقة منكوبة بالحروب، القديم منها وتلك التي عرفناها في القرن العشرين والحروب التي نعيشها اليوم، فإن الدراسات الاستراتيجية حولها والتفكير فيها أكاديمياً لطالما كان مسألة فردية يأخذها مفكرون وكتّاب على عاتقهم أو من خلال دراستهم في جامعات غربية. أما الجامعات العربية فلم ترسخ بعد هذا التخصص ضمن كلياتها، ولم يتحول إلى جزء من قائمة التخصصات الأكاديمية المكرسة فيها.