بعد عقود من الحكم الشمولي في سورية، الذي لم يكن خطابه الرسمي يتبنى سوى رواية واحدة لتاريخها بما يخدم أيديولوجيته وسياساته، برزت العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة التي تسعى إلى إعادة قراءة المشهد منذ نهاية الحكم العثماني مروراً بالاستعمار ثم الاستقلال.
من ذلك، كتاب "صوَرٌ من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين - جمعها الدارسون في المعهد النقابي بدمشق" الذي صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وقد أعدّه الباحث السوري عبد الله حنّا، معتمداً فيه منهجية المقابلات والتاريخ الشفوي مصدراً من مصادر التاريخ. أما المقابلات فقد أجراها طلبة "المعهد النقابي العمالي المركزي" في سورية، وتولى حنّا تنسيقها وتنظيمها وتحريرها، في صورة كبيرة لحياة المجتمعات في سورية في القرن العشرين.
يتألف الكتاب من أربعة فصول، تبدأ بتصدير بعنوان "مقدمات أولية: أضواء في المجتمعات السورية في القرن العشرين ذات العلاقة بما جمعه الدارسون"، وفيه يُدرس الحياة السياسية في سورية في القرن العشرين، والاقتصاد الريعي ودوره في صعود الإسلام السياسي والدولة الأمنية، وترسيخ قطاع الدولة دعائم الدولة الأمنية، والحركة النقابية في صعودها وهبوطها، والانحسار الثقافي التنويري العربي. تظهر هنا المجتمعات السورية في القرن العشرين وقد مرّت بعدد من المراحل: مرحلة ظهور النهضة المتزامنة مع الإصلاحات في الدولة العثمانية، ومرحلة الانتداب الفرنسي، ومرحلة فجر الاستقلال (1943-1958)، ومرحلة الوحدة بين سورية ومصر، ومرحلة الانفصال عن مصر، ومرحلة حكم البعث نتيجة الانقلاب العسكري في 8 آذار/ مارس 1963.
ويعرض حنّا في "مقدمات توضيحية"، تبياناً حول الأوراق النقابية، والاستمارة التي استند إليها الدارسون في المعهد النقابي لإجراء اللقاءات وجمع المعلومات، وكيفية تحويل المرويات التي جمعوها إلى النصوص الواردة في المؤلَّف.
يورد الفصل الأول، "أوراق الدارسين - الأماكن والبلدات"، 24 رواية من بلدات سورية مختلفة، كما أتت تفاصيلها في أوراق الدارسين، بدءاً بصور من مظاهر الحياة في السلمية، ووضع قرية الروضة في بانياس، وبلدة مصياف، ولمحة عن قرية بسيريت (محافظة حماة)، والحياة في قرية الصومعة (محافظة طرطوس) نقلاً عن فلاح بسيط، والفئات الاجتماعية في الدار الكبيرة وتوابعها على النهر العاصي، وبلدة التل وتأثيرات الهجرة للعمل في بلدان النفط، والفئات الاجتماعية في محافظة درعا، وقرية البلها على أطراف البادية وشظف العيش فيها والهجرة إلى مدينة حمص، وعامل في شركة الكهرباء يقدم لقطات من أوضاع حماة وغيرها من المدن والبلدات.
يعرض حنا في الفصل الثاني "أوراق الدارسين – الأرياف والمسألة الزراعية"، 11 رواية يبدؤها من فلاح أجير إلى عامل في الدولة: قرية آفس بإدلب، ثم فلاحو حمورية واستغلال أفندية دمشق لهم، وظهور الإقطاع في قرية الطليعي بمنطقة صافيتا، والجوابرة الإقطاعيون في عين سابل وهجرة الفلاحين للعمل في حلب، وقصة ابن فلاح فقير في ريف حلب والعمل في المدينة، وملكية الأرض في قرى دروز إدلب والعلاقة بالجوار السني، وغيرها من الروايات.
يدرج الفصل الثالث "أوراق الدارسين – المِهَن والعمل النقابي وصوَر من الأرياف والمدن"، قصصاً عن المهن والعمل النقابي في مدن سورية وأريافها في القرن العشرين، متحدثاً عن النول في تدمر، والحلّاق القارئ ونقابته، وشركة جبلة للغزل التابعة للقطاع العام ومشكلاتها، وصانع المدافئ من دمشق، والحرف وتطورها في يبرود كحرفة نسج الشعر، وتجارة السمن البلدي في بادية الشام، والفرواتي وطريقة عمله في حماة، والفواخيري بدمشق، والعديد من المهن الأخرى.
يتطرّق حنا في الفصل الرابع "أوراق الدارسين – العمال والنقابات"، إلى أوراق الدارسين التي تقدّم وصفاً لتفاصيل الحياة العمالية والنقابية في سورية في منتصف القرن الماضي، كرواية أنطون ووالده عاملَي السكك الحديدية، وصانع الأحذية من دمشق والعامل في شركة نسيج، وحياة النقابي المثقف متقن الفرنسية إبراهيم الجهماني في درعا، وروايات أخرى.