لزمن طويل، جرى اعتبار الأنثروبولوجيا مجالاً لدراسة المجتمعات "البدائية". صورتُها - لدى عامة القرّاء - ارتبطت بالأركيولوجيا، باعتبارها تعداداً صبوراً لعادات الشعوب "الغريبة". توافَق هذا الارتباط بين موضوع الدرس الأول للأنثروبولوجيا مع تمجيد نزعة الاستكشاف الإكزوتيكي في الثقافة الغربية، غير أن الأنثروبولوجيا - ومنذ تأسيسها - قد وضعت لنفسها مشروعاً آخر يتمثّل في تجاوز الخصوصيات والتفكير في البشرية بشكل شامل. وقد خلق هذا التجاذب بين الخصوصية والكونية فرادة العلم الأنثروبولوجي.
اليوم، ومع تحديث الخطاب الأنثروبولوجي، حول التنوّع مثلاً، والذي يسير جنباً إلى جنب مع النجاح الذي لا يمكن إغفاله للأدب الإكزوتيكي لدى جمهور القرّاء الموسّع، تعقّدت أكثر وضعية الأنثروبولوجيا في المجتمع.
يأخذ الاهتمام بالآخر وبالتنوّع والاختلاف وجوهاً متنوّعة في مجتمعاتنا الحديثة. أحياناً تكون هذه الوجوه متناقضة. مثلاً، يحدث هذا الاهتمام ضمن تطوّر السياحة وما يتبعها من بحث عن "الإكزوتيكي"، وأيضاً ضمن مطالبات بالتعبير عن الهويات المحلية والحنين إلى ماضٍ يُبعث بصورة مثالية.
حيال هذه الظواهر التي تتعدّد رهاناتها، كان على الأنثروبولوجيا أن تحدّد بوضوح مواضيع بحثها الميدانية وهياكلها الفكرية، فقد باتت أمام تحدّي تجاوز فخ انحصارها في مجالٍ همُّه تعداد الثقافات البعيدة وإعادة بناء الحضارات التي اضمحلّت أو بصدد الاضمحلال، وهو رهان يأتي في نفس الوقت الذي نجد فيه أن هذه المهمّات تظلّ ذات أهمية.
اليوم، لم يعد ممكناً اختزال الأنثروبولوجيا في دور واحد، ففي الوقت الذي تواصل فيه الاهتمام بالمجتمعات التي تُصنَّف "بدائية" أو "تقليدية"، فإنها تضع أمامها هدف فهم طريقة "اشتغال" كل ما هو اجتماعي وثقافي، ومن وراء ذلك استخراج المشترك الإنساني، ما يتيح تفسير تنوّع المجتمعات ووحدة الجنس البشري في نفس الوقت.
مشروع أنثروبولوجيا عامّة يَفترض توسيع التفكير، وصولاً إلى المجتمع الحديث. لقد باتت الأنثروبولوجيا تبحث أكثر فأكثر على أن تُمارَس في المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية. غير أن هذا الانتقال، أو بالأحرى عودة الأنثروبولوجيين (الغربيين) إلى مجتمعاتهم الأصلية، لا يمكن أن يتمّ دون طرح عدد من الإشكاليات التي تتعلّق بموضوع البحث ومناهج الحقل المعرفي الذي يشتغلون فيه.
* من مقدّمة كتاب "الأنثروبولوجيا.. من الخاص إلى الشامل"
** ترجمة من الفرنسية شوقي بن حسن