إريك جوفروا: التصوّف كحبوب لتهدئة أعصاب العالم

12 اغسطس 2016
(زاوية للطريقة القادرية في سريناغار، كشمير، تصوير: توصيف مصطفى)
+ الخط -

لا يقلّ محتوى كتاب إريك جوفروا "سيكون الإسلام روحياً أو لن يكون"، حزماً وإشكالية عن عنوانه. فقطعيّة العنوان، وإشكاليته، اللتان تجعلان من الروحانية شرطاً وحيداً لـ "بقاء" الإسلام، تنسحبان على مقترح الكتاب، الذي يبدو، في كثير من مواضعه، طموحاً ومغايراً للسائد من الكتابات الإسلامية.

في تقديمه لطبعته الفرنسية الثانية، الصادرة أخيراً بالتزامن مع ترجمته العربية ("المستقبل للإسلام الروحاني"، ترجمة: هاشم صالح، عن "المركز القومي للترجمة" في مصر، بالاشتراك مع "نبض للنشر والتوزيع")، يقول الكاتب والباحث في الصوفيّة إنه إذا كان عنوانه قد بدا للبعض "مستفزاً" حين صدور الطبعة الأولى من الكتاب عام 2009، فإنّ له أن يبدو اليوم أكثر تبصّراً واستشعاراً للخطر.

ذلك أن "الأعراض" التي وصفها وحلّلها وقدّم علاجاً لها في ذلك الوقت، والتي كانت طفيفةً نسبياً حينها، باتت اليوم في مرحلة متقدّمة من الالتهاب الذي لا يعتمل في "جسد" الإسلام فحسب، بل في "جسد" الإنسانية برمّتها.

الحديث عن عوارض تحوّلت إلى آفات، بين الأمس واليوم، قد يستحضر، قبل أيّ شيء، مسألة "الجهاد"، ذائعة الصيت هذه الأيام. غير أن القارئ الوفيّ للخطاب الإعلاميّ السائد، الباحث في سياق كهذا عن سرديّات وتفسيرات شافية للحيرة حول "الجهاد" و"المجاهدين"، بوصفهم أصل البلاء الوحيد، قد لا يجد ما يرضيه في عمل الباحث الفرنسي.

ذلك أن جوفروا لا يرى في "الجهاد" إلا جرحاً متقيّحاً من بين جراح عديدة غير معالجة يعاني منها حاضرنا. "جراح" ذات أبعاد دينية، وسياسية، وأخلاقية، وبيئية، يتموضع "الجهاد" فيها إلى جانب مشكلة العولمة، و"فضيحة" التعامل مع قضية اللاجئين والمهاجرين، كذلك أزمة الفراغ واللايقين في مجتمعات ما بعد الحداثة، ومشكلة وصول إنسان "الحداثة" و"التقنية" و"التطور" إلى مرحلة تدمير ذاته وكوكبه.

بالنسبة إلى جوفروا، تشترك كلّ هذه المشكلات بأن لها جذراً واحداً، أعمق وأكثر تعقيداً، يتمثّل في ما يسمّيه بمشكلة "انعدام المعنى" أو العدميّة. وهو، في كتابه هذا، يتفرّغ للحديث عن الشقّ الإسلامي من هذه المشكلات، محللاً إياها وطارحاً حلاً لها، من دون أن يعني ذلك عزلاً لما هو "إسلامي" عمّا هو "غربي" أو "كوني". ذلك أن الكاتب يرى في الإسلام مشروعاً كونياً بالضرورة، ولولا ذلك لما كان، هو الفرنسي المسلم، معنيّاً بهذا الدين ولا بالنقاش حوله.

رغم ذلك، لا يخفي الكاتب أن الإسلام يعيش أزمة كبيرة في الوقت الحالي. وهو أمر يقوله عنوان الكتاب بلا مواربة. في الحقيقة، يرى جوفروا أن ما تعيشه بلاد المسلمين، اليوم، من ركود، وانغلاق على الذات والعرق، وواحدية مهيمنة في الفكر والرأي والتصرّف والملبس، وعدم احترام للآخر واختلافه، وقمع للمرأة وللحريات، وتهرّب من المسؤولية، وهوَس بالتحريم والتحليل وبالفتاوى، وازدهار لمعتنقي "الجهاد"؛ ينمّ عمّا يسمّيه "انقلاباً للقيم الإسلامية" الحقيقية. أيّ أن هذه التصرفات تأتي بعكس ما يحضّ عليه الإسلام.

ينضمّ الكاتب، برأيه هذا، إلى تقليد معروف يفصل بين النصّ الدينيّ وتطبيقه، ويقول إن الإسلام التاريخي انحرف عن سمت "الإسلام الحقيقي". وهذا رأي يخصّص الفصل الأوّل من كتابه لتفصيله وإيضاحه، مفنّداً، بلا كلل، تلك التصرّفات "المنحرفة واحدة واحدة. فهو يحاجج، مثلاً، ضد التقوقع على العرق والدين والثقافة، مبرهناً على كونية الدين الإسلامي من خلال الاستشهاد بعدد كبير من الآيات والأحاديث.

تبقى محاججات جوفروا، التي نألف جزءاً منها ونكتشف آخر، دليلاً عن اشتغال معرفي يستحق التقدير، يستند إلى قراءة واطّلاع واسعين، يغطّيان كتابات إسلامية من عصور مختلفة، وكذلك أعمالاً غربية، فلسفية واجتماعية.

كما أن جزءاً من مقترحاته يتّصف بشجاعة في إعادة القراءة ومساءلة "المسلّمات" باتت نادرة في الكتابات الإسلامية اليوم. إذ لا يتردد في نقد "ذكورية" بعض الصحابة، الذين لم يقنعهم اتخاذ المرأة دوراً مهماً في البيئة الإسلامية، و"لم يفهموا موقف النبي" من ذلك، مطلقين، منذ ذلك الحين، أولى ملامح الثورة المضادة، التي بدأت بقلب المفاهيم الجديدة للإسلام، عبر العودة إلى بعض التقاليد السابقة على الإسلام؛ تقاليد يشير الكاتب إلى أن بعض المجتمعات الإسلامية ما تزال آخذة بها.

كما لا يتوانى المؤلف عن تحميل علم الفقه، ورجاله وفتاواهم، وتحريماتهم، مسؤولية تحويل الشريعة الدينية إلى سجن وبالتالي الابتعاد عن "روح الإسلام الأصلي". وهو يعيد، مثلاً، قراءة بعض مقولات ابن تيمية الأكثر شهرة وتبنّياً من قبل التيّارين السلفي والوهابي، ويرى فيه مصلحاً أساء السلفيون والوهابيون فهمه وتفسيره.

على أيّة حال، يمهّد الكاتب بهذه المقدمة التفنيدية، النقدية، لواحدة من مقولات كتابه الأساسية: ضرورة اقتراح حلّ لهذا الانقلاب، وهذه العدمية، اللذين أديا، تدريجياً، إلى "انعدام المعنى" وإلى ما هو الإسلام عليه اليوم؛ أي إسلام بعيد، في كثير من تطبيقاته، عن "الإسلام الأول".

ويزيد من الحاجة إلى هذا الحل، في رأي جوفروا، اشتراك "الغرب" أيضاً في الأزمة، هو الذي يعيش مرحلة تخشّب الحداثة وعدمية ما بعد الحداثة. هذه الأزمة المادية التي يعرفها "عالمنا" تتطلب، كما يرى المؤلّف، ثورة روحانية، "ثورة في المعنى"، تعود بالإنسان إلى جوّانيته وبساطته الأولى، وتتيح له تأمل معاني وآيات الله في الخلق والكون وفهمها. هي ثورة تعوّل على الاجتهاد الصوفي، وزهده، وعلى تفسير النصّ الديني والتاريخ بما فيه خير لحاضر الكائن (باختلاف ثقافته وعرقه ودينه) ولحاضر كونه.

هكذا، يلتقي الكاتب، في مفارقة تستحق الملاحظة، مع بعض تنظيرات ما بعد الحداثة، التي فتحت، بتفكيكها الحداثة الأوروبية المادية-التقنية، الباب على الحاجة إلى الروحانية، كما يقول. وهذا التشابه في المقصد بين اشتغاله واشتغال المابعد حداثيين يتيح له اقتراح التصوّف بوصفه حلاً لعالم اليوم المأزوم، وليس لـ "العالم الإسلامي" فحسب، باعتبار أن المشكل واحد، والحل قد يكون كذلك.

يمكن القول إن مقترحات جوفروا تبدو، من ناحية، مفرطة التفاؤل إذ تقترح الروحانية والصوفية علاجاً لعالم بات شديد المادية وأقل اكتراثاً بالدين.

ربما تكون أزمة ما بعد الحداثة قد فتحت الباب على الروحانية بوصفها حلّاً لبعض الناس في الغرب، حيث يتزايد عدد المتحولين إلى أديان "روحانية" وتتتكاثر كتب وبرامج الزن والبوذية والتصوّف وجلسات العلاج الروحي ودروس اليوغا. غير أن هذا التوجّه، في حدّ نفسه، ليس إلا نتاجاً للعولمة (المادية) التي لم يكن ليوجد لولاها ولولا نظامها ومؤسساتها.

ففي حين تتولّى مواقع عولمية بامتياز كـ "أمازون" تسويق كتب الحكمة والتأمل و"مساعدة الذات" روحياً، تتكفل مؤسسات أخرى بتقديم جلسات العلاج الروحي ودروس اليوغا، في حين تنشغل وكالات السياحة وشركات الطيران في اقتراح عطلة صيفية في "بيئة روحية يسودها الهدوء" على الباحثين عن راحة النفس. في كلمات أخرى، إن الروحية التي يتحدث جوفروا عن عودتها من باب ما بعد الحداثة لا يمكن وصفها إلا بالروحية المفرطة بماديتها؛ إذ أنها ولدت وتربّت وستهرم في حضن العولمة.

من ناحية أخرى، تعاني مقترحات الكاتب حول الصوفية من مجافاتها لليومي وبعدها عن المعيش. إذ لا يعاين جوفروا، وهو يقترح الصوفية نموذجاً للعيش القويم، مسار هذا المقترح في الواقع، أي في السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فاقتراح بهذا الثقل والطموح في حاجة إلى أساسات وأطر واقعية، لا يمكن أن تؤمنها نصوص "مولانا الرومي" الجميلة ولا التأملات الروحية الفردية.

إن اشتغال جوفروا يفصل التصوّف عن العالم اليومي، ويقتصر على محاججات ذات طابع نصّي ومتعالي. غير أن التصوف، كما نعرفه في بلاد الشام وتركيا، وكما نقرأ عنه في المغرب وأماكن أخرى، شديد التاريخية، أي أنه ذو ارتباط وثيق بما هو سياسي واجتماعي واقتصادي، وهو أقل مثالية من التصوف الثقافوي النصّي، أو الجواني الفردي، الذي يحاجج به جوفروا.

وهذه الفجوة تفقد اشتغال الكاتب وجهده كثيراً من ثقلهما، وتقلّل من واقعية طموحه. كان ليبدو مفيداً لو أولى الكاتب البعد الاجتماعي للتصوّف حقه، محاولاً فهم نظام العلاقات فيه، وارتباطه بالسلطة، ومساءلة دوره السياسي، وتحليل ما يمكن أن تؤول إليه اجتماعياً مقولاتٌ مثل "الزهد في الدنيا" و"عدم الخروج عن طاعة الحاكم"، وكذلك تحليل بنائيته الهرمية، التي تتوارث قمّتها شخوص تنتمي إلى عائلة أو نسب واحد، كما في الأنظمة العشائرية التي ينتقدها جوفروا نفسه.


المساهمون