في وقت من الأوقات، كان 80% من سكان العالم مزارعين، وكان هؤلاء هم المنتِج شبه الوحيد للمصادر الغذائية. الآن، والسوق غارق في الأطعمة، لا يلاحظ كثيرون أن مساهمة المزارعين في إنتاجها لا تتجاوز 2%. هذا يحدث أيضاً مع أنواع الإنتاج الأخرى. الطبقة العاملة التي كانت محرّك التغيير عند الماركسية تتلاشى، فيما يبدو أن قطار التكنولوجيا السريع مستمر في التقدّم إلى ما لانهاية. ماذا سيحدث حين يدهس القطار الملايين ويجدون أنفسهم بلا عمل؟
في الوقت الذي كان السياسيون البريطانيون يناقشون "الرأسمالية المسؤولة" عام 2011، على وقع الأحداث التي اندلعت في العالم، أصدر المؤرخ المُخلِص للماركسية كتابه "كيفية تغيير العالم.. حكايات عن ماركس والماركسية".
كان إريك هوبزباوم (1917 ـ 2012)، في الرابعة والتسعين من العمر، وهوجم وكتابه (صدر مؤخراً عن "المنظمة العربية للترجمة")، واختلفت أسباب مهاجمته، منهم من اعتبره نبشاً، لا يهتم له أحد، في حلول ماركس "اليوتوبية"، وغاب عن هؤلاء أن الماركسية ليست حلولاً يوتوبية، بل تعريفاً للمشاكل التي على العالم أن يتعامل معها، ولم تستطع الرأسمالية أن تحلّها إلى اليوم.
يضاف إلى ذلك أن هوبزباوم نفسه لم يكن متفائلاً بل يعتقد بثلاثة عقود عاصفة بانتظار العالم. حتى اللحظة الأخيرة من الكتاب، يحاجج صاحب الرباعية الشهيرة "عصر الثورة" و"عصر رأس المال" و"عصر الإمبراطورية" و"عصر التطرّف"، أن اللبرلة السياسية والاقتصادية عاجزة عن تقديم حلول لمعضلات قرننا، فقد وصلت إلى مرحلة "مرضية" من الانحطاط ستؤدي إلى كارثة إن لم يجد العالم بديلاً، قد تكون الماركسية أرضاً مناسبة للبحث عنه، هذا في حال وُجد غرامشي آخر، يعيد تفسير العالم، وفقاً لها، التفسير الذي يقود إلى التغيير.
لا يمكن الانتفاع من قيمة عمل هوبزباوم هذا إن لم يكن القارئ ملمّاً بمفاتيح فهم ماركس، لذلك يفرد المترجم، الأكاديمي المتخصّص في الفلسفة، حيدر حاج إسماعيل، مقدمة مطوّلة يشرح فيها مفاهيم صاحب "رأس المال"، فالطريق الذي يسلكه هوبزباوم ـ في 16 مقالة كل واحدة منها تقرَأ سياقات محدّدة من تاريخ الماركسية ما بين 1840 حتى 2011 ـ هو كيف نفكر في ماركس اليوم، ويبدأ من اللحظة التي فكّر فيها في الرأسمالية كما كانت في زمانه، ثم يُفرد مساحة معتبرة لغرامشي بوصفه أفضل من أعاد تفسير ماركس في القرن العشرين.
بالنسبة للماركسي، فإن تفسير العالم وتغييره أمران لا يمكن الفصل بينهما، غير أن حظوظ الماركسية لطالما اعتمدت على الأوضاع التي يجد الناس أن انتقاد الرأسمالية بات أمراً ملحاً، وأن استدعاء نظرية نقدية لها سيكون فعلاً مناسباً، هذا الشيء حدث في روسيا سبعينيّات القرن التاسع عشر، وفي شرق أوروبا في ثمانينيّاته وفي أوروبا في الأربعينيات من القرن العشرين، وحتى بشكل نظري في تسعينياته، ففي هذا العقد، كان العالم، وفقاً لهوبزباوم، كما توقعه ماركس في "البيان الشيوعي". وقعت الأزمة الاقتصادية عام 1998 في الذكرى الـ150 لكراسته هذه، والتي استنجد الرأسماليون بها وليس الشيوعيون، فتجدّدت قراءته من قِبل من لم يكونوا يوماً ماركسيين، ومن بينهم جاك أتّالي.
بحسب هوبزباوم، فإن من أفضل ما حدث لفكر ماركس بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو تحريره من لينين، واستعادة فيلسوف ترك أثراً في القرن العشرين، بل وكأحد أهم مؤرخي الرأسمالية: "بعد سبعين سنة من وفاة ماركس، عاش ثلث البشر في ظل أنظمة تحكمها أحزاب شيوعية ادّعت أنها مثّلت أفكاره".
بات معروفاً الآن أن معظم الجدل الذي خاضه الاشتراكيون لم يكن منبثقاً مباشرة عمّا كتبه ماركس، فماركس نفسه كتب القليل عن الاشتراكية. إذن حين بدأت هذه الأخيرة في تكوين برنامج عمل لها، لم يكن هناك من دليل وضعه ماركس ويمكن الاستدلال من خلاله. النص الوحيد الذي كان بين أيديهم هو نقد ماركس لـ"برنامج غوثا"، وهو نقد حسّاس ولكنه لم يكن ليفضي إلى أي مكان. ولم يكن ليكون مفيداً في الحالة التي وجدت فيها بريطانيا نفسها سنة 1918، ولا في شأن لينين و"الكهربة الوطنية". لم يكن بمقدور الماركسيين العودة إلى النص، كان عليهم الارتجال والإتيان بحلولهم (قد يُفاجأ القارئ بحضور ماركس الطفيف في كتاب لينين عن الإمبريالية).
يصرّح هوبزباوم، في آخر محاضراته (شباط 2011) التي ناقش فيها "كيفية تغيير العالم"، إن أسوأ ما حدث للماركسية أن الثورة التي اندلعت باسمها وقعت في روسيا، ثورة أكتوبر (التي لطالما قال إن حلمها ما زال يراوده). حدثت في ظروف ليست قادرة على استقبالها، أمر كان يدركه أصحابها لكنهم اعتقدوا أن بإمكانهم صناعة الظروف. في الوقت الذي كانت ظروف ألمانيا أكثر خصوبة لمثل هكذا حدث، لكن الثورة لم تقع فيها.
بالطبع هذا لا يعني أن الأفعال المخططة والمنظمة لا يمكنها أن تغيّر العالم، لكنه يعني أن أحداً لن يستطيع توقّع النتائج، وقد تكون مخالفة تماماً لما هو مأمول. والأمثلة القريبة والمعاصرة حيّة بيننا. فالأفعال السياسية، في رأي المؤرخ البريطاني مؤثرة على المدى القريب، وغير فاعلة على المدى البعيد.