"مقالب" بطاقات الائتمان

07 يناير 2019
+ الخط -
في حياة كل منا مقالب وحكايات انتهى بعضها بذكريات سعيدة وأخرى بمآسٍ، لكن مقالب بطاقات الائتمان لها طعم آخر، إذ تنتهي كلها بذكريات أغلبها أليمة وقاسية على النفس، منها مثلاً التعرض لموقف محرج أمام الأصدقاء والأسرة عندما لا يكون هناك رصيد في البطاقة، أو فقدان الوظيفة والطلاق، وأحياناً تقودك البطاقة إلى السجن مع المجرمين، وربما الانتحار في حال الدخول في متاهات التعثر المالي وتراكم الديون وعدم القدرة على سداد أموال البنوك، إليك 5 مقالب.


عشاء على وقع الإفلاس
في لحظة رومانسية تعد أسرتك بعشاء فاخر في نهاية الأسبوع، وبعد استعراض أسماء كل المطاعم الموجودة في منطقتك، تختار الزوجة مطعماً فاخراً لتناول وجبة العشاء، في الموعد المحدد يتجه الجميع إلى المطعم الواقع على بعد كيلومتر واحد من المنزل، عشاء مدته ساعتان من الضحك والمرح يلاحظه كل الجالسين من حولك ويحسدونك عليه.

عقب تناول العشاء وبعده الحلويات والمشروبات يشير الزوج إلى "الجرسون" بيده اليسرى لإحضار فاتورة الحساب، وبشكل سريع تنظر إلى الفاتورة لعل القيمة المطلوبة صادمة، المبلغ معقول، هكذا يقول الزوج لنفسه بصوت داخلي، صحيح أن المبلغ زيادة "حبتين" عن المبلغ الذي كان حدده للمناسبة، لكن لا يهم، المهم أن الأولاد "اتبسطوا"، تمتد يده لجيبه حيث حافظة نقوده، يخرج منها بطاقة الائتمان التي اعتاد سداد مشترياته بها، يناول البطاقة للجرسون لخصم الحساب، بابتسامة باهتة غير مريحة بعض الشيء يقول الجرسون والأسى المفتعل على وجهة "نعتذر يا سيدي.. السداد لدينا كاش.. لا نقبل بطاقات الائتمان"، يسمع الزوج الجملة وكأن حية لدغته أو الأرض ابتلعته، الجو يتكهرب، وبسرعة ينتقل التوتر من الزوج إلى كل أفراد الأسرة، يطمئن العائلة قائلاً بصوت منخفض "سأتصرف.. لا تقلقوا، الموضوع بسيط"، يطلب من عائلته الجلوس لدقائق في نفس المكان لحين البحث عن ماكينة صراف آلي ATM لسحب المبلغ المطلوب منها، يخرج من المطعم مهرولاً نحو مسؤول أمن المكان، يزداد التوتر عندما يبلغه هذا المسؤول أنه لا توجد ماكينة لصرف النقود في هذا المكان، وأن عليه استقلال تاكسي عدة كيلومترات لأقرب فرع بنك في داخله ماكينة، يهيم على وجهه في الشوارع كالمجنون، سائلاً كل من يقابله "أين الماكينة.. أين النقود".


عيد زواج غير سعيد
عيد ميلاد الزوجة اقترب، والمطلوب الاحتفال بهذه المناسبة السنوية وبالشكل اللائق، وإلا ستحدث مشكلة عائلية أنت في غنى عنها، خاصة في مثل هذه الأيام، كما أن شراء هدية لا يكفي، حتى وإن ثقل ثمنها وسعرها، المطلوب احتفال، يتم حجز "ترابيزة" في أحد الأماكن الراقية، يذهب جميع أفراد الأسرة الصغيرة المكونة من الزوج والزوجة وولد وبنت، وبصحبتهم أسرة كبيرة مكونة من عائلة الزوجة بالكامل، المناسبة لطيفة، والجو رائع، والمكان أروع، خاصة أن العاملين في المحل شاركوا الأسرة هذه المناسبة عندما علموا بها، عقب انتهاء الحفل، يسأل الزوج عن الفاتورة، وتأتي الإجابة الصادمة من "الجرسون": "نعتذر يا أفندم.. المطلوب السداد نقداً، لأن السيستم ساقط، والاتصال مقطوع بين المحل والبنك، ولذا لا نقبل حالياً السداد ببطاقات الدفع الإلكتروني.. يمكنك الانتظار لحين عودة السيستم والاتصال مع البنك.. نعتذر مرة أخرى يا أفندم.. في المرة القادمة سنعالج المشكلة وسيكون هناك سداد بالبطاقة، أول مرة البنك يعملها معانا"، هكذا يواسي "الجرسون" الزوج، وباقي القصة معروفة، يتمتم الزوج قائلاً لنفسه: "أنا كنت عارف إنها هتقلب غم ونكد في نهاية الحفلة"، يجري يميناً ويساراً للبحث عن ماكينة صراف آلي لسحب المبلغ المطلوب منها، بعد أن ينبه على الجميع بعدم التحرك حتى لا يظن من في المكان أن الأسرة نصابة.

البطاقة أفقدتني وظيفتي
لأول مرة في حياتي أسمع عن بطاقات الائتمان الصادرة عن البنوك، لقد مرّ علينا موظف البنك في مقر الشركة وأقنعنا بضرورة أن تكون لديك بطاقة بلاستيكية تفتح لك الأبواب المغلقة، إذ يمكنك من خلالها شراء أي شيء، سلعة أو خدمة، شراء سلع من السوبر ماركت والمحال التجارية، سداد تذاكر طائرات ومواصلات عامة، سداد فواتير الكهرباء والمياه والتليفون الأرضي والمحمول، سداد كلفة إقامة في فندق وغيرها، وما شجعني على ذلك أن سداد القيمة بعد نحو 55 يوماً، بل ويمكنك سحب كل ما بالبطاقة من رصيد والسداد خلال تلك الفترة، وبسرعة اقتنعت بالفكرة، خاصة أن موظف البنك قال لي إن البطاقة سيتم منحها بضمان الراتب الشهري وأنه ليس مطلوباً أن تكون لديك وديعة في البنك للحصول عليها، وأن قيمة الرصيد بها تزيد عن الراتب. اعتبرت أن البطاقة بديل مثالي لحل الأزمات والعثرات المالية بدلاً من الاقتراض من الزملاء والأصدقاء والأقارب والتعرّض لمواقف محرجة، كما أن حيازة بطاقة ائتمان في جيبك تمثل لك نوعاً من الأمان المالي والمعنوي. حصلت على بطاقة بضمان الراتب، وفي أول شهر سحبت في حدود الراتب، لكن في شهور لاحقة سحبت كل الرصيد، ولم أستطع السداد في شهور لاحقة، لأن راتبي بالكاد يكفي مصروفات الأسرة. تراكمت فوائد الديون لتأخري في السداد إلى أن توقفت تماماً عن سداد مستحقات البنك؛ البنك خيرني ما بين السجن أو السداد، لأن الأموال المستحقة هي أموال مودعين لا يجوز التنازل عنها، فضّلت السداد، إذ قمت بتسوية معاشي والتقدم بطلب لجهة العمل للخروج على المعاش المبكر حتى أحصل على مبلغ التقاعد لسداد مستحقات البطاقة. لقد فقدت وظيفتي بسبب بطاقة ائتمان.

بركات الزوجة الثانية
السحب من بطاقات الائتمان لا يقاوم، هو كالسحر، رصيد البطاقات التي كانت بحوزتي كان ضخماً بحكم منصبي، حصلت على عدة بطاقات من عدة بنوك في وقت واحد، كانت البنوك تتسابق لمنحي بطاقة أو أكثر، ليس بضمان راتبي بل بضمان سمعتي ومنصبي الرفيع في الدولة، فأنا مسؤول بارز في إحدى الوزارات السيادية. فجأة تجمعت لدي نحو 10 بطاقات فيها مبلغ ضخم، أغراني المبلغ بتحقيق حلمي القديم وهو الزواج الثاني من سيدة كانت زميلة لي في العمل، وعلمت منذ أيام أنها انفصلت عن زوجها. سحبت كل ما في البطاقات من سيولة، وضعت جدولاً للسداد حتى لا أغرق في الديون؛ قلت عندما يحل موعد السداد سأسدد الحد الأدنى المطلوب وهو 10% من القيمة وأرحل الـ90% للشهر التالي، وفي وقت لاحق كنت أسحب من بطاقة البنك الأول لأسدد بطاقات البنك الثاني، ثم دخلت في المرحلة الأخطر، وهي السحب من نفس بطاقة البنك لسداد نفس البطاقة، إلى أن دخلت في مرحلة التعثر المالي والتوقف عن السداد، مركزي وصورتي الذهنية في العمل بدآ يهتزان، خاصة أن خطابات البنوك الدائنة بدأت تتدفق على مقر عملي، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الحرجة، مدير البنك يبلغ الوزير الذي يرأسني مباشرة بتعثري وتوقفي عن سداد مبلغ ضخم من المال. بعت شقة سكنية كنت أمتلكها لكن قيمتها لم تكف، أحال البنك أوراقي إلى النيابة بعد استئذان الوزير. الخبر انتشر في مقر عملي، نصحني الوزير بالاستقالة حتى لا أشوّه سمعة المكان، فقدت وظيفتي وبعدها مباشرة الزوجة الثانية التي أغرقتني في الديون.


مقلب السودان
هذه عينة من مقالب بطاقات الائتمان التي باتت تنتشر وبشكل سريع لأهميتها، لكن شخصياً حدثت لي مقالب من نوع آخر، فقبل 15 سنة تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر اقتصادي بالعاصمة السودانية الخرطوم، قبل السفر فشلت في شراء دولارات من البنوك المصرية، حيث كانت أزمة السوق السوداء للعملة على أشدها في ذلك الوقت، اتصلت بأحد أصدقائي من رؤساء البنوك الخاصة وأبلغته بالمشكلة فاعتذر عن تدبير سيولة دولارية عبر البنك، وقال لي "لا توجد سيولة متاحة لدى البنك لبيعها لك، يمكن أن أسحب لك من رصيدي الخاص، وعقب العودة من السفر تردّ لي المبلغ"، رفضت بشدة وشكرته على نبله، وقلت لنفسي: ولمَ التعقيد، أنا بحوزتي عدة بطاقات ائتمان بها رصيد يكفي تغطية تكلفة رحلتي وبزيادة، ومن السهل استخدام البطاقات في سداد فاتورة الفندق والمطاعم، بل ويمكنني سحب سيولة نقدية للمصروفات الشخصية، هبطت في أحد فنادق الخرطوم ذات الخمس نجوم المطلة على النيل، المنظر خلاب من حولك، حجزت 5 ليالٍ، طلب مني كاشير الفندق مبلغاً تحت الحساب، مددت له بطاقتي، وكانت الصدمة، إذ قال لي الكاشير: "لا نقبل بطاقات.. نقبل الكاش فقط"، قلت له بسرعة: وأين أقرب ماكينة صراف آلي حتى أسحب لك المبلغ المطلوب، وكانت الصدمة الثانية، البنوك السودانية لم تعرف بعد البطاقات ولا أحد يتعامل بها هنا، إنها خدمة موجودة فقط في البنوك العالمية والخليجية، وبالتالي لا توجد صرافات آلية أو نقاط بيع إلكترونية POS في السودان كله.

لن أسرد باقي تفاصيل ما جرى بعد ذلك، يكفي أن أقول إنني سرت على قدمي عدة كيلومترات من مقر رئاسة الجمهوية حيث مقر انعقاد المؤتمر حتى مقر الفندق الذي أقيم فيه لأنه لا توجد بحوزتي عملة سودانية، ورفض التاكسي تقاضي الأجرة بالجنيه المصري.
دلالات
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".