سطل الدهان ومترو الأنفاق

28 يونيو 2017
+ الخط -
رحنا وزميلي خالد، المفتول العضلات، نبحث عن حل لمشكلة بسيطة، أشغلت مساحة من تفكيرنا، ونحن نركض بحثاً عن سطل دِهان لطلاء الجدران، لإصلاح ما يحتاجه البيت الجديد الذي سبق أن أستأجره صديقي من شابة صربية، نمساوية الجنسية.

وطوال الفترة، التي امتدت لأكثر من ثماني ساعات، بحثنا هنا وهناك في محال فِيينا الضخمة، ولم نعثر على ضالتنا، ما اضطرّنا مجبرين إلى السؤال عن مكان تواجدها في أماكن ضيّقة جداً، وهذا ما تتطلب استمرارية العناء أثناء تجوالنا للبحث عن سطل الطلاء الذي سنستخدمه في تبييض جدران المنزل الذي استأجره صديقنا إبراهيم.

سألت خالد: أظن أننا لا يمكن بحال أن نصل إلى ما نبحث عنه. كما ترى، هناك صعوبة بالغة في الوصول إلى المكان الذي يُمكن أن تتوافر فيه هذه المادة للتخلّص من بعض البقع التي تزيّن جدران الغرفتين اللتين سنقيم فيهما، ما يدعونا إلى أن نعود إلى البيت مكتفين بإبقاء الجدران على وضعها، والاكتفاء بالطلاء القديم، والكف عن البحث بدون طائل بعد مرور ما يزيد عن ثلث النهار قضيناه بالاعتماد على حدسنا، ومشاهداتنا للأبنية التي تتسع لها شوارع أجمل مدن العالم الأوروبي المتحضّر بإطلالتها الساحرة.

قال خالد: ما العمل؟! سنستمر في البحث. جدران البيت من الداخل بحاجة إلى إعادة تبييض من جديد. أقل ما هنالك غسلها بطلاء يُريح النفس، ويوسّع حدقة العين، بدلاً من المناظر المؤذية التي تلفِت النظر، ولم يبادر صاحب البيت بإزالتها، أو العمل على إعادة تحسينها من جديد.

الإنارة في المنزل باهتة، وتوافرها يستأنس المقيم بها، وتثلج الصدر، ونستغني إلى حد ما عن ضوء الكهرباء في نهار فيينا الطويل في فصل الصيف، في حال أنهينا ما نبحث عنه.

قلت: معك كل الحق يا صديقي. سنحاول الدخول إلى هذا المحل الضخم، أظن أننا سنجد فيه ضالتنا. 

تقدّم خالد وسأل الشاب الوسيم عما إذا كان المحل الذي يعمل فيه يبيع لوازم البناء. هزَّ له رأسه، وقال: نحن في هذا المتجر، وكما ترى، لا نبيع مثل هذه الاحتياجات. سأدلك على مكان آخر يمكنك أن تجد فيه ما تبحث عنه.. توجهنا مسرعين إلى حيث المحل الذي أشار إليه... وظللنا نمشي إلى أن وصلنا إلى محل ضخم. وهناك عثرنا على أنواع كثيرة من المواد واللوازم المنزلية مختلفة الأشكال والألوان. وأخيراً تمكّنّا من العثور عليه في المحل الذي سبق أن أشار إليه ذلك الشاب النمساوي، من أصل عربي.

حملت مع صديقي خالد سطلي الدهان، واتجهنا بهما نحو باب المخزن الكبير. استمرينا في مشينا. وفي طريقنا، أشار زميلي أن نلجأ إلى ركوب مترو الأنفاق عسى وعلَّ أن يقرّب المسافة، ويخفّف عن رفيقي حمولة سطلي الطلاء، اللذين ناء بحملهما بمفرده.

حاولت مساعدته إلا أنه ألحَّ على أن يستمر في حملهما بمفرده. وصلنا إلى حيث محطة المترو، التي تغصّ بالركاب الذين يتوزّعون أدوارهم في هذه الحياة. كل ذاهب إلى عمله، ومتجه إلى المكان الذي "يتلقط" منه رزقه، ونحن لا زلنا بانتظار الذهاب إلى المحطة التالية للوصول إلى المنزل حيث ينتظرنا فيه عمل شاق ومرهق.

وأثناء توقف المترو في المحطة التالية، رأيت خالد يحمل سطلي الدهان ظناً منه أنه سينزل معي في المحطة التي توقف عندها المترو. نزلت بمفردي من إحدى بواباته بانتظار نزوله.

بقيت لوحدي داخل أرض المحطة. تلفتُ يمنةً ويسرى. لا أحد غيري نزل من المترو. حاولت الصعود إلى داخله، إلا أنَّ أبوابه أوصدت بسرعة، ما جعلني أقف مندهشاً مما حدث... وهذه هي المرّة الثانية التي أصعد فيها المترو في "فيينا"، وليس لدي الخبرة بأسماء المحطات التي يمر بها، ومعرفتي بها لا زالت في طور بداياتها، وهذا ما أثار في دخيلتي بعض التوجس والريبة من أن أتمكن من اللحاق به إلى محطة أخرى، ما جعلني متمسكاً بأيّ خطوة يخطوها رفيق طريقي.

نزلت من المترو، وأنا أتابع خطوات خالد حتى ينزل هو الآخر من المترو وبيده سطلي الطلاء. ما حدث أنني بقيت خارج المترو، داخل النفق الذي يمر به. صدمت مما أنا فيه. لوحت له بيدي أثناء مرور المترو، وارتسمت على شفاهنا ضحكات يعتريها الخوف لما حدث نتيجة الموقف الغريب والتصرف الساذج الذي حصل.

تسمّرت في مكاني. إنها المرّة الأولى التي أركب فيها المترو في مدينة كبيرة ومزدحمة بالسكان مثل فِيْينّا، وليس لدي أي معرفة مسبقة بالمحطات التي يقف عندها.

حزمت ما يمكن أن أتوكل به على الله. فكرت ملياً. قلت في نفسي سأصعد في المترو القادم وسأنزل في المحطّة التالية، وأظن كل الظن أن خالد ينتظرني هناك.

بعد دقائق، وصل المترو وركبت في إحدى عرباته، ونزلت في المحطة التي شعرت بأنني سأجد ضالتي فيها، وهو عثوري على زميلي الذي افتقدته فجأةً.

تبادلنا الابتسامات... وضحكنا كثيراً لهذا الموقف الذي لم يكن له من بد من أن يكون فصلاً هزلياً من فصول أبي البهاء الذي لطالما قرأنا له بعض المواقف المضحكة، والفصول الباهتة، ومداعباته مع الكثير من المعارف والأصدقاء الذين أراد الإيقاع بهم في زحمة الحياة.. والتي حاول مراراً أديبنا عبد السلام العجيلي، طيّب الله ثراه، أن يكتب عنها، وما يمكن أن يولد في ما هم مقبلون عليه من أن يغرس في قلوبهم بعض ما يحلو له من فصول، تركت الكثير من الصور المفجعة في نفوس من قرأها، متضمنةً أشكالاً متعدّدة من المؤسيات التي غيّرت، بالتالي، الكثير من مجرى حياتهم!

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.